من قال إن الولايات المتحدة تخجل من إعلان «احتضانها» للربيع العربي؟ هي لا تسعى إلى تمويهه حتى. وآخر مظاهر «الرعاية الأميركية» للبلدان المتغيرة في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا خطّة جديدة يتولاها قسم «الدبلوماسية الشعبية» في وزارة الخارجية، تبدأ من تونس ولا تنتهي في مصر. قليل من البروباغندا والكثير من العمل المركّز «داخل المدن مع الناس على مدار الساعة». «الوضع بات أكثر تعقيداً الآن. يجب علينا أن ندخل في العمق. خرائط التأثير التي نعمل عليها يجب أن تخصص لكل بلد، أو بصراحة، لكل مدينة. يجب أن نستعلم عن كل مدوّن وعن كل شخصية مؤثرة في تلك المجتمعات. وعملنا لن يتوقف هنا، إذ يجب أن ننتقل من مستوى الى آخر، تماماً كمن يقشر بصلة، فنتعرّف مثلاً إلى الفئة التي يؤثر عليها هذا المدوّن وهل هؤلاء الناس هم الهدف الذي نريد أن نصل اليه؟»، هكذا شرحت مساعدة وزيرة الخارجية لشؤون الدبلوماسية الشعبية جوديث ماكهيل، الخطة الجديدة لدبلوماسية العموم الاميركية في بلدان «الربيع العربي». ماكهيل التي تنتهي مهماتها في وزارة الخارجية هذا الشهر، كشفت جزءاً من الخطط الأميركية التي وضعتها لمواكبة التغيرات في مناطق الثورات. المسؤولة الدبلوماسية زارت تونس على رأس وفد كبير في نيسان الماضي، بعد شهر من أول زيارة رسمية لوزيرة الخارجية الاميركية لتونس ومصر بعيد سقوط نظاميهما. لكن، حينها لم يسمع الكثير عن أهداف تلك الزيارة الدبلوماسية ولا عن نتائجها.
في جلسة حوار نظمها «مجلس العلاقات الخارجية» الاسبوع الماضي، تحدّثت ماكهيل عن زيارتها الأخيرة لتونس والخطط التي بوشر العمل بها هناك، وأعلنت التغيرات التي طرأت على دائرة «الدبلوماسية الشعبية» في الوزارة بغية «استيعاب التحولات ومواجهة التحديات في بلدان تغيّرت بالفعل ولا تزال تتحرّك لغاية الآن».
وانطلاقاً من واقع أن «الهرم انقلب» فعلاً في تونس ومصر، شددت ماكهيل على ضرورة تغيير طريقة عمل الدبلوماسية الاميركية ونقلها من اطار العمل مع السياسيين والقادة العسكريين والاقتصاديين (أي رأس الهرم) الى الاحتكاك بالشارع والمواطنين مباشرة لمعرفة تطلعاتهم واكتشاف أهدافهم. كيف؟ «عبر الذهاب الى سوق الأفكار» تقول ماكهيل، وتضيف «غرف التحادث على الانترنت والمدونات والمدارس والجامعات في تونس ومصر وغيرهما من البلدان تعجّ بأفكار جديدة يطرحها الشباب الذين غيروا أنظمتهم، لذا يجب أن نكون هناك بينهم بكل الطرق، كل ساعة، كل يوم».
إذاً، بعد «خطة مارشال» المصغرة التي أعلنتها هيلاري كلينتون لتونس ومصر في آذار الماضي، ها هي الادارة الأميركية تمدّ شلوشها عميقاً في صلب المجتمعات المتغيرة عبر الالتصاق بناسها ومواكبتهم في مؤسساتهم المدنية وبلدياتهم ومدارسهم وإعلامهم. هذا ما كان يطلق عليه في السابق «البروباغندا الخارجية» في الادارة الاميركية وهو ما بات يعرف اليوم بـ«الدبلوماسية الشعبية»، التي تأتي لتستكمل ما صنعته الاستخبارات وما حققته السياسة من دون الانفصال الكلّي عن أي منهما. فماذا «زرعت» «الدبلوماسية الشعبية» في الأراضي الخصبة التونسية بعد شهرين من سقوط النظام التونسي؟ وماذا عن البلدان التي تدخلت في تحركاتها الولايات المتحدة (دبلوماسياً أو عسكرياً) ولم تشأ الخروج منها بعد؟
حتى الآن لم يعترف أحد من الخارجية الاميركية بفداحة ما يجري في ليبيا. بعض النقّاد المتابعين صنّف الهجوم الاطلسي على البلد على أنه جزء من سياسة «الامبريالية الانسانية» (رغم صعوبة جمع الكلمتين في عبارة واحدة)، وهي إحدى ميزات السياسة الخارجية الأميركية منذ سنوات. حيث تتذرّع الادارة بـ«ضرورة إنقاذ شعب ما من طاغية» أو بـ«تخليص جماعة ما من مجزرة» أو بـ«الدفاع عن الحريات وحقوق الانسان»، كي تبرر تدخلها العسكري في بلد متحرّك أو مستكين، فتفرض هيمنتها عليه أمنياً واقتصادياً وسياسياً.
مسؤولون في الخارجية الأميركية بدأوا يشبّهون (بإيجابية) الجهود الأميركية التي بذلت «على مدى سنوات» لفصل جنوب السودان عن باقي البلد كالجهود التي تسخّر اليوم لـ«دعم الشعبين التونسي والمصري ومساعدتهما على استكمال ديموقراطيتهما». في البحرين، خنقت الثورة ولم يرفّ جفن الادارة «المندفعة». أما حول سوريا فالكلام الرسمي يُزان بدقة قبل أن يخرج من الأفواه ليكرر ما تقوله هيلاري كلينتون ويردده باراك أوباما: «إذا لم يرعَ بشار الاسد الاصلاحات الجدية فعليه أن يتنحى»، مع التشديد على «خصوصية» كل بلد واختلاف التعامل مع كل منها.

تونس محطة أولى جامعة

على رأس فريق «جامع لكل دوائر الخارجية الأميركية»، ضمّ كبار الموظفين في الأقسام السياسية والاقتصادية والتربوية والإعلامية ـــــ معظمهم ممن «خدم» في العراق وأفغانستان ـــــ توجهت ماكهيل الى تونس منذ 6 أسابيع، بتعليمات واضحة من وزيرة الخارجية الأميركية: اخرُجوا الى الناس، انتشروا بينهم، استمعوا لهم، اعملوا على الأرض. والهدف؟ «استكمال ما حققته الولايات المتحدة لغاية الآن ومساعدة السفارة الأميركية على التحرك سريعاً جداً عند الحاجة» توضح ماكهيل. «هو فريق التدخل السريع، الذي سيكوّن صلة وصل بين السفارات والوزارة فيلغي العقبات البيروقراطية، ما سيسرّع العمل على الأرض ويمهّد لإتمام الخطط البعيدة الأمد»، تتابع ماكهيل. مساعدة الوزيرة التي حطت في تونس العاصمة وصفاقس خلال زيارة بعيدة عن الاضواء، عقدت لقاءات مع ناشطين شباب وممثلين عن المجتمع المدني وهيئات المدارس والجامعات وصحافيين من مختلف الوسائل الاعلامية التونسية.
الفريق الرسمي الجامع ترأسته كبيرة الموظفين في الشؤون الخارجية غريتا هولتز، التي عملت في العراق وأفغانستان سابقاً، كما ضمّ اختصاصيين من المكتب الاقتصادي التابع للخارجية الأميركية الذي سيعمل على تنفيذ استثمارات ومشاريع اقتصادية في تونس، اضافة الى مسؤولين في الشؤون التربوية للتبادل التعليمي بين مدارس البلدين ومجموعة إعلامية التقت مع صحافيين من الاعلام الرسمي والخاص ومدونين وناشطين إلكترونيين. والحاضر الدائم في هذه اللقاءات كانت مؤسسات المجتمع المدني التي تعوّل الادارة الأميركية عليها كثيراً «لتنفيذ الارتباط الاميركي بتلك الدول المتحركة بأسرع الطرق».
ماكهيل، التي التقت «نحو 65 ناشطاً على مدى 6 ساعات»، استنتجت أن «التونسيين فخورون بثورتهم ولا يريدون أن يسلبهم إياها أحد، لا الولايات المتحدة ولا أي بلد آخر»، وتردف «لكن اذا تخاطبنا معهم وشاركنا في بلورة أفكارهم، فسنمضي قدماً في تحقيق أهدافنا هناك». ماكهيل تحدّثت عن تبادل أفراد بين البلدين (من صحافيين وأطباء ومدرسين...)، «إحضار أشخاص الى الولايات المتحدة يسهم في تحويلهم، كما يساعدنا أيضاً على جمع معلومات عن بلد هؤلاء الاشخاص، لذا هو مفيد على كل الصعد»، تردف المسؤولة الخارجية.
وعن ردّ فعل التونسيين وطريقة تعاملهم مع فريق الوزارة، توضح ماكهيل أنها واجهت الكثير من معارضي السياسة الأميركية الخارجية اضافة الى عدد كبير من الحذرين والمشككين في نيات التعاون، لكنها تقول «هذا الأمر سيستمر وسنواجه تلك الفئات من الناس دائماً، لكني مقتنعة بأن ما نفعله هو الصواب». وفي هذا الاطار، يتبيّن أن ماكهيل لا تؤمن مثلاً باستطلاعات الرأي حول السياسة الأميركية الخارجية، وهي «لا تدع الأرقام السلبية تحبطها، بل تتخطاها وتستمر بنفس السياسة والعمل».
وردّاً على سؤال عن «الدبلوماسية المتعددة الأطراف» كشفت ماكهيل أن إدارة باراك اوباما باشرت اعتماد هذا النوع من الدبلوماسية المتعددة في تونس ومصر. وتشرح أنهم في صدد التعاون مع أطراف اخرى في أوروبا وأميركا اللاتينية مثلاً للعمل دبلوماسياً بنحو مشترك في كل من تلك البلدان.

تغييرات في الخارجية

يبدو من المفيد التذكير بأن ميزانية عمل «الدبلوماسية الشعبية» التابعة للخارجية الأميركية لا تزال بيد وزارة الدفاع. ففي عهد جورج والكر بوش، ومواكبة لسلسلة الحروب التي شنّها تباعاً، تحوّل العمل «البروباغندي» (وهو الاسم الأصلي لعمل قسم «الدبلوماسية الشعبية») الى وزارة الدفاع. وقد بلغت ميزانية «التواصل الاستراتيجي» في البنتاغون 900 مليون دولار بعدما كانت 60 مليوناً في بداية عهد بوش. وهذا الوضع لا يزال على حاله في عهد أوباما، رغم اعتراف وزير دفاعه علناً بأن وزارة الخارجية غير ممولة بنحو كاف.
لكن أخيراً، ورغم نقص التمويل في الوزارة، أجريت بعض التغييرات الاساسية في هيكلية الأقسام، مواكبة للأحداث المتلاحقة في الشرق الاوسط وشمال أفريقيا، إذ أضيف سبعة نواب إلى مساعدي وزيرة الخارجية، توزعوا على المكاتب الاقليمية. ستة منهم سيساهمون بنحو أساسي في جعل «الدبلوماسية الشعبية» تساهم في صنع القرار السياسي داخل الوزارة، أي في رسم الخطط السياسية القريبة والبعيدة المدى في الوزارة وفقاً لكمية المعلومات التي يجمعونها من أهل البلد ومؤسساته. والمنصب السابع هو إعلامي بحت، ولن يقتصر دور هذا الاخير على التواصل مع الاعلام «التقليدي» (صحف وتلفزيون وراديو) بل سيركز على النشاط الالكتروني ـــــ الاعلامي. وخصوصاً عبر التعاون مع شبكة مدونين وناشطين على مواقع «فايسبوك» و«تويتر».



بوسطن تكلّم جلال آباد

بعيداً عن بلدان «الربيع العربي»، تحاول الولايات المتحدة الأميركية تثبيت سيطرتها على بعض البلدان الاستراتيجية التي ترغب البقاء فيها دبلوماسياً وعسكرياً واستخبارياً مثل أفغانستان وباكستان. «الدبلوماسية الشعبية» حاضرة هناك أيضاً. وهي تعمل على أكثر من صعيد. هنا مثل على آخر «إنجازاتها» التي تتغنى بها الخارجية الاميركية:
منذ فترة، فُتحت خطوط تواصل إلكترونية (عبر تقنية سكايب للاتصال المباشر على الانترنت) بين طلاب في ثانوية ولاية بوسطن الأميركية وآخرين من ثانوية في جلال آباد الأفغانية. السؤال الأول من أحد الطلاب الأفغان موجّه لـ«زملائه» الأميركيين، وكان: «ما شعورك اذا دهم جنود أميركيون منزلك في الليل وهاجموا عائلتك وجرّوك من سريرك الى الخارج؟». دوّى السؤال في الصفّ الأميركي ولم يلق جواباً فورياً.
التجربة الثانية، كانت بين طلاب من ولاية كاليفورنيا وآخرين من كاراتشي الباكستانية. الجميع توقّع فتح حوار بنّاء وتواصل لطيف بين الطرفين، لكن المفاجأة جاءت من الطلاب الأميركيين الذين لم يعرفوا أصلاً أين تقع باكستان على الخريطة ومن هم سكانها!
تروي مساعدة وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون «الدبلوماسية الشعبية» هاتين الحادثتين اللتين شهدت شخصياً عليهما، لكنها تضحك وتقول إن التواصل حصل واستمرّ «وهو أمر مذهل وناجح ويبشّر بمستقبل واعد»(!).