بعد الترهيب، حان وقت الترغيب. بهذه العبارة يمكن وصف تحول موقف حكومة جنوب السودان في التعامل مع قضية أبيي وحقوق قبيلة المسيرية فيها، وذلك بعد كشف قياديين في القبيلة عن أن رئيس حكومة الجنوب، سالفا كير ميارديت عرض عليهم منحها منصب نائب رئيس حكومة الجنوب بنحو دائم، في مقابل الحصول على موافقة المسيرية على إتباع المنطقة بالجنوب.طرح لا يبدو أن القبيلة على استعداد للقبول به في الوقت الراهن، وفقاً لما أكده القيادي في قبيلة المسيرية، محمد عبد الله ود أبوك، رغم الضمانات التي أبدت حكومة الجنوب استعدادها لتقديمها لهم، ومن بينها تضمين حق المسيرية في المنصب ضمن دستور دولة جنوب السودان.
ولا يمكن فصل أسباب رفض المسيرية للعرض، الذي يكرس للمرة الأولى في تاريخ الصراع على أبيي اعتراف الجنوب بحقوق القبيلة السياسية في المنطقة، عن غياب ثقة المسيرية بقيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان نتيجة التوتر الذي صبغ العلاقة بين الطرفين طوال سنوات الحرب الأهلية، وما بعد توقيع اتفاق السلام الشامل في عام 2005.
كذلك، إن قبيلة المسيرية ليست في وارد خسارة دعم حزب المؤتمر الوطني الحاكم الذي لطالما ساند موقفها في المفاوضات حول حقوقها، وحرص أول من أمس على محاولة قطع الطريق أمام أي إمكانية لموافقة القبيلة على العرض بتأكيده أن شمالية أبيي قد حسمت في اتفاق الترتيبات الانتقالية الذي أبرم في 20 حزيران الماضي، وأنها لم تعد موضوعاً للمساومة.
سبب إضافي يحول دون قبول المسيرية، يتمثل في رأي القبيلة أن امتدادها التاريخي يعود إلى الشمال لا إلى الجنوب، الذي تنتقل إليه فقط في مواسم الجفاف، سعياً وراء توفير مكان مناسب لرعي مواشيها.
ورغم إدراكها لوجود هذه المعوقات، يحمل تقديم حكومة الجنوب مثل هذا العرض على بُعد أيام فقط من انفصال الجنوب في طياته دلالات عديدة، في مقدمتها الرغبة في إيجاد حل نهائي للمنطقة، يضمن استقرارها بوصفها أحد أخطر مهددات العلاقة بين الشمال والجنوب. ويدرك ميارديت أن استعداد قيادات الحركة الشعبية لتحرير السودان، المسيطرة على الجنوب، للتخلي عن بعض المناطق المتاخمة لحدود الدولة الوليدة ومن بينها جنوب كردفان، لا ينسحب على أبيي، وخصوصاً أن العديد من القيادات الرئيسية للحركة تنحدر من المنطقة، أو تنتمي إلى قبيلة الدينكا نقوك التي تمثّل المكون الرئيسي لأبيي.
كذلك، توصلت حكومة جنوب السودان إلى اقتناع تام بأن أي حل للأزمة في المنطقة لن يكون إلا من خلال اتفاق سياسي، بعدما تعذر إجراء الاستفتاء المنصوص عليه ضمن بروتوكول أبيي، الذي أعطى سكانها الحق في تحديد ما إذا كانوا يريدون البقاء ضمن الشمال أو الانضمام إلى الجنوب بعد الانفصال، بسبب التعنت الذي صبغ مواقف الحركة وتمسكها بحرمان جزء كبير من أبناء قبلية المسيرية من المشاركة في التصويت بحجة أنهم بدو رحل.
حل سياسي تبادل المؤتمر الوطني والحركة الشعبية رفض طروحاته، بما في ذلك الاعتراض على اقتراح المؤتمر الوطني بتحويل أبيي إلى منطقة تكامل منزوعة السلاح تتبع للشمال والجنوب معاً، ورفض اقتراح الحركة الشعبية ضم أبيي إلى الجنوب بقرار إداريّ، على أن تمنح حقوق الرعي لقبائل المسيرية، في مقابل حرمانها حقوق التصويت والمشاركة الرئيسية.
إلا أنه مع اقتراب موعد الانفصال، كان لا بد من اقتراح جديد، ولا سيما بعد عودة التوتر إلى المنطقة. من هذا المنطلق، لم يجد ميارديت المتيقن أن استقرار الوضع الأمني في الجنوب سيكون في جزء منه مرتبطاً بتطورات الأوضاع في أبيي، أمامه سوى تقديم هذه المبادرة، عله ينجح في تحقيق أكثر من هدف، أولها إرضاء قادة الحركة الشعبية، وضمان التفافهم حوله بعد أن يتحول من رئيس وزراء إلى أول رئيس لدولة جنوب السودان، وذلك من خلال إظهار أنه فعل كل ما في وسعه لإلحاق أبيي بالجنوب على أساس أن قيادات الحركة الشعبية لن ترتضي بأي حل يمكن أن يحرم أبيي أن تكون جزءاً من الدولة الجديدة.
كذلك يسعى ميارديت إلى بدء عهده الرئاسي، من خلال الظهور بمظهر رجل السلام لتكون له بصمة خاصة تقترن بالدولة الوليدة على غرار زعيم الحركة الشعبية الراحل جون قرنق، الذي سيخلده الجنوبيون بوصفه موقِّع اتفاقية السلام التي ستمنحهم يوم السبت المقبل دولة جديدة يأملون من خلالها أن يحققوا تطلعاتهم التي عجزت الوحدة مع الشمال عن إنجازها.