إنّا لفلسطين... وإنّا إليها لراجعون
ناديا فهد
جاءها اتصال غير متوقع من صديقتها هديل التي قررت الانتظار في الباص ريثما تخلو الطرقات أمامه فيجتاز الأربعة كيلومترات الباقية للوصول إلى مارون الراس حيث كان الفلسطينيون يحيون الذكرى الثالثة والستين لاحتلال وطنهم. أخبرتها هديل بأنها تريد اللحاق بها ويجب أن تنتظرها. أجابتها بلؤم «صرت قاطعة مسافة كبيرة، لو قبلتي تيجي معي من الأول! خلص بلاقيكي فوق بمارون الراس»، ثم أقفلت الهاتف بوجهها. تذكرت انها نسيت إخبارها في أي من الطوابير المتوزعة على تلال بنت جبيل يجب أن تتلاقيا. أعادت الاتصال بها وسألتها على عجل حرصاً على رصيد هاتفها المحمول «وين إنت؟ ليكي شايفي هادا البيت البني والبيج على التلة ما في غيره. شفتيه.. آآه أنا بأول طابور على جهة الشمال. ناطريتك يللا شرّفي».
وفي انتظار قدوم صديقتها، شرعت في تأمل آلاف اللاجئين يتقاطرون من الطرقات الفرعية كأنهم طوفان بدأ باجتياح خضرة التلال وقد اتخذ من فلسطين بوصلته. قطع تأملها بكاء طفلة صغيرة وصوت أمها المتعب يحاول تهدئتها وحثّها على متابعة التسلق «يللا ماما حبيبتي تحمّلي شوي، قربنا نوصل». لم يقنع كلام الأم الابنة، فالخدعة لن تنطلي عليها مجدداً. تمادت في التأمل «قد تكون هذه الطفلة أصغر متسلقة في العالم وتستحق دخول موسوعة غينيس للأرقام القياسية».
وفي الانتظار، تأملت المئات يسبقونها الى أقرب نقطة من فلسطين، فكرهت صديقتها هديل التي أخّرت سيرها، وكرهت المنظمين، وكرهت كل من افترش الأرض ونصب نارجيلته وشرع في التدخين.
أنقذها قدوم هديل من أفكارها الشريرة تلك، فانطلقتا مسرعتين في طريقهما. في منتصف التل ترقد امرأة ستينية على الأرض تلتقط أنفاسها وتردد عبارات تشجيعية للمارين قربها «الله يقويكم.. الله ينصركم». هكذا، تابعت الصبيّتان تسلقهما حتى وصلتا أخيراً الى نهاية التلة، التفتتا الى المسافة التي قطعتاها «شايفي كل هاد، ولا شي قدام يللي جدودنا مشيوه»، تمتمت لصديقتها.
وصلت الفتاتان الى الشارع المؤدي الى تلة مارون الراس. هنا الطريق معبدة ولا أشواك ولا صخور ولا معاناة كما يبدو... فقط سيول من البشر تعود أدراجها باتجاه بنت جبيل.
يبدو العالم هنا مختلفاً، بدأت أصوات طلقات النار تعلو في السماء لتمتزج مع صفارات سيارات الاسعاف. وسرعان ما بدأت هتافات «الله أكبر» و«بالروح بالدم نفديك يا شهيد» تملأ المكان وتعلو أصوات طلقات جنود الاحتلال. شهيد أول مرفوع على الأكف الغاضبة، يبدو كملاك نائم بسلام. تفحصت ملامحه الفتية النابضة شقاوة علّه يصحو في أي لحظة ويباغت الجميع بمرح.
كادت دموعها تخنقها لأنه لم يفعل. شعرت بأنها وكل من حولها بحجم النمل أو أصغر، أرادت أن تلتحق بهؤلاء الفيلة الواقفين أمام الأسلاك الشائكة يعبّدون بدمائهم مسيرة العودة والتحرير. هو شعور لا يدركه إلا من كان في المكان.
تابعت باتجاه الحشود المتجمعة أسفل التل وقرب الأسلاك الشائكة، اصطدمت بالحاجز الذي شكله الجيش اللبناني بأجساد عناصره، مانعاً توافد المزيد من اللاجئين نحو أرضهم. سبب وجده بعض الشباب ذريعة للتطاول على الجيش، ما دفعها وغيرها إلى التراجع، فهي طبعاً لا تخطط لميتة بطلقة طائشة من هنا أو هناك.
كان أحد الشباب يتحدث عبر هاتفه المحمول بحماسة شديدة كأنه يروي إحدى مغامراته، زاعماً أنه الآن قرب الأسلاك الشائكة، وهو يبعد عنها سنوات ضوئية، ودّت لو تدفعه، فيموت فترتاح ويرتاح المخيم منه ومن أمثاله.
وكان هناك احد السياسيين البارزين ومعه شخصان يشيران الى الأسلاك وتدخل الجيش اللبناني الحاسم هذه المرة لتفرقة الحشود هناك. سخرت من تنظيره عن بعد وودّت لو تدفعه هو الآخر. كان أحد مرافقيه يتفحصها بريبة وكأنه قرأ أفكارها. سرعان ما عدلت وجهتها وتابعت الصعود. وجدت نفسها في حقل صغير مزروع بعناية وحب، تابعت السير فيه بحذر كأنها تسير وسط الألغام تفادياً لتخريب ما بقي من الشتلات سالماً.
عادت أدراجها الى مكان الباصات، لا تدري كيف قطعت كل تلك المسافة، كانت شديدة الإنهاك، وكل ما تتذكره أنها وجدت في طريقها رفاقها في الباص فتبعتهم. وما إن دخلت الباص حتى لمحت صديقتها هديل هناك، انهارت قربها على المقعد. أرخت رأسها الى الخلف. ثم شرعت بحفر قلب على نافذة الباص المغطاة بطبقة من بخار الماء. وبتأنّ تابعت لترسم قرب القلب «راجعين يا فلسطين».