دمشق | يسجَّل للرئيس السوري بشار الأسد تفعيل العلاقات السورية ـــــ القطرية منذ زيارته الدوحة عام 2003، وهي التي حققت نقلة كبيرة في العلاقات الثنائية، نتج منها توقيع نحو 13 اتفاقية شملت مجمل أوجه النشاطات في البلدين ولمختلف القطاعات العامة والخاصة. ومع مطلع عام 2005، عُقد المؤتمر الاستثماري السوري ـــــ القطري، وقد صدرت عنه مقترحات متنوعة. غير أن عامي 2006 و2007 شهدا محطات اقتصادية مهمة ومميزة على خط دمشق ـــــ الدوحة، بدءاً بتأسيس المصرف الإسلامي الذي انطلق من سوريا برأس مال قدره 5 مليارات دولار
، مروراً بالمشاريع السياحية على الساحل السوري التي تنفذها شركة «الديار» القطرية، وصولاً إلى تأسيس البنك السوري ـــــ القطري برأس مال بلغ 100 مليون دولار، ومعه شركات ضخمة مثل «الشركة السورية ـــــ القطرية القابضة»، و«شركة الائتمان السورية». تعاون اقتصادي رفيع المستوى تزامن مع ازدياد ظاهرة تبادل المستثمرين بين البلدين، وارتفاع نسبة العمال السوريين في قطر، وتسجيل نسبة متزايدة سنوية بين عدد سياح البلدين.
أما الأهم فكان سياسياً، إذ دعمت قطر المواقف السورية، وأشادت بدعمها للمقاومة رغم استياء بعض الدول العربية، كالسعودية. في المقابل، دعمت دمشق موقف الامارة الخليجية إزاء مناطق النزاع مع البحرين مثلاً. ورغم المحافل العديدة التي ظهر فيها رئيسا البلدين، كانت الإشارة الأوضح إلى تقارب الدولتين في 2004، عندما افتتح الأسد دار الأوبرا السورية بحضور الأمير القطري حمد بن خليفة آل ثاني الذي قوبل يومها بحفاوة استثنائية. كل ذلك يضاف إليه الدور الكبير الذي قامت به قناة «الجزيرة»، عندما حصدت جماهيرية ساحقة لدى الشارع السوري، وتمتعت بصدقية كبيرة أثناء تغطيتها للأحداث الكبرى التي عصفت بالوطن العربي في السنوات العشر الأخيرة قبل هبوب رياح «الربيع العربي».
ويرجِّح بعض المحللين أن سوريا هي من ساهمت في حقيقة الأمر بتكريس دور قطر دولة فاعلة في المنطقة، عندما منحتها فرصة ذهبية جعلتها تتصدّر مشهد الأحداث العربية، وذلك باقتراح سوري من خلال دعوة الزعماء اللبنانيين إلى «مؤتمر الحوار الوطني» في الدوحة بعد أحداث أيار 2008 في لبنان، وهو ما مثّل فرصة حقيقية لحصول قطر على الدور السياسي في المنطقة الذي سعت إليه منذ زمن طويل.
كل ذلك كان يعكس صورة علاقات متينة لا يمكن أي أزمة مهما كبر حجمها أن تخلخلها. لكن حقيقة الأمر أن تلك العلاقات بدت كأنها مبنية على أساسات وهمية لم تحتج إلى أكثر من عاصفة واحدة حتى تطيحها، وهو ما تُرجم بحزم السفير القطري زايد الخيارين أمتعته أخيراً، ومغادرته عاصمة الأمويين من دون أن يبلغ وزارة الخارجية السورية بذلك. حتى إن أقاويل ترددت عن تحول قطر من موقع الصديق إلى موقع العدو، الذي لا يوفر جهداً لإسقاط نظام الأسد، بدليل موقف «الجزيرة» التي وقعت في إرباك وتردُّد واضحين في اليومين الأولين لبدء الاحتجاجات السورية، قبل أن تقرر المضي قدماً في سياسة التغطية على أساس التحريض والمبالغة والتشجيع على التظاهر، متذرِّعةً بمنع مراسليها من العمل من داخل الأراضي السورية. موقف «الجزيرة» جعل حظوظها تتراجع لدى بعض السوريين، وخصوصاً بعد حملات الرد التي قام بها بعض الشباب بطباعة شعار المحطة القطرية على حاويات النفايات، مذيَّلة بعبارة «التحريض مستمر»، إضافة إلى تنظيم الموالين تظاهرات أمام مكتبها، وهو ما حصل أمام السفارة القطرية في دمشق، لدرجة الاعتداء على مقر السفارة. إضافة إلى ذلك، راقب الإعلام السوري تلفزيون «الجزيرة» ليكشف ما قال إنها أخطاء ومبالغات، كما تحدث عن هذه المحطة علناً أكثر من مسؤول سوري كان آخرهم وزير الخارجية وليد المعلم، الذي أشار إلى أن موقف «الجزيرة» لا يعكس حقيقة الموقف الرسمي القطري.
والواقع انه إثر اندلاع الاحتجاجات في سوريا، عرضت قطر على القيادة السورية القيام بوساطة مع بعض القيادات المعارضة. وكانت تغطية قناة «الجزيرة» للاحداث عادية «ومن دون مبالغات» كما يقول السوريون. لكن دمشق، من جهتها، تمنت على الخارج عدم ممارسة اي نوع من الوصاية عليها. وأبلغ الرئيس السوري امير قطر انه جاد في الاصلاحات وسيمضي فيها حتى النهاية. لكن شيئاً ما حصل، لا تزال ملابساته غامضة حتى الان، بحسب جهة قامت بوساطة غير ناجحة بين الطرفين. وتعتبر هذه الجهة ان الامر «سياسي بالدرجة الاولى»، وان امير قطر ابلغ جهات دولية، بينها الرئيس الاميركي باراك اوباما، بأنه حصل على تعهد من الاسد باجراء اصلاحات عميقة وسريعة. ولاحقاً، عندما بدأت الامور تتطور في سوريا، ورفض الاسد كل الوساطات التركية والقطرية والمداخلات الغربية، طالب الاميركيون أمير قطر بما سبق ان ابلغه اليهم. فتصرف الاخير على انه «طعن شخصيا في مصداقيته». وترافق ذلك مع ارتفاع مستوى التغطية النقدية لـ «الجزيرة»، وسط مناخات اكثر وضوحا في معارضة النظام السوري عبّر عنها اعلاميون في القناة.
في وقت لاحق، ارسلت قطر احد ابرز مستشاري الأمير الى دمشق، وعقد سلسلة اجتماعات تركزت على سبل استئناف التواصل. لكن الاسد ربط كل ذلك بعدم التدخل. وفي مرحلة ثالثة، حصل تباين ادى الى امتناع الاسد عن استقبال شخصيات بارزة مثل رئيس الحكومة حمد بن جاسم، ليتم بعدها الاتفاق على قناة مثّلها احد العاملين في مكتب الامير، والذي عاد الى سوريا مقترحا على الاسد كتابة رسالة الى امير قطر يشرح فيها ما يجري. وهو ما حصل بالفعل ليعود الرجل بعد ايام حاملا رسالة خطية جوابية من امير قطر. وكانت صدمة القيادة السورية ان امير قطر ضمّن رسالته مطلبا بان يتم تشكيل اطار سياسي انتقالي تتمثل فيه حركة «الاخوان المسلمين» بنسبة لا بأس بها.
عند هذا الحد، بدا واضحا ان القيادة السورية لم تعد تتعامل مع الموقف على انه تباين في وجهات النظر. رفض الاسد ترتيب أي لقاءات اخرى. فيما رفعت «الجزيرة» سقف الحملة على النظام، واستدعت عدداً كبيراً من المعارضين الاسلاميين الذين اطلقوا حملة مباشرة تدعو الى اسقاط النظام. ومن يومها توقفت العلاقات.
وعندما قرر جنبلاط، أخيراً، السفر الى الدوحة، بادر الى اثارة الامر مع القيادة السورية عارضا القيام بوساطة. ابلغه السوريون انهم لا يريدون وساطة، ولكنهم لا يمانعون ان يقوم باي جهد، وحرصوا على نفي طابع المهمة، وهو ما حرص جنبلاط بدوره على ابلاغه الى امير قطر خلال الاجتماع به في الدوحة. لكن جنبلاط سمع نقدا قاسيا سياسيا وشخصيا للرئيس السوري، وعاد ليبلغ جهات لبنانية وسورية توقعاته بأن الازمة طويلة بين الجانبين.
ويشار هنا الى ان ايران حاولت القيام بدور بين الجانبين، على هامش المباحثات الايرانية - القطرية حول الوضع في البحرين، لكنها شعرت بأن الامر معقد اكثر مما يعتقد كثيرون.
رغم ذلك، فإن آراء سورية تبدي تفاؤلاً بعودة المياه الى مجاريها بين الطرفين، وهو ما يعبّر عنه أمين تحرير صحيفة «البعث» عدنان عبد الرزاق، الذي يقول لـ «الأخبار» إن «من الضروري الوقوف على طبيعة العلاقات قبل الأزمة وأثناءها وبعدها. فمن المعروف أن قطر كانت داعمة دائماً لموقف سوريا المقاوم، بدليل ما قامت به الحكومة القطرية في جنوب لبنان بعد عدوان تموز 2006، ومواقفها الداعمة لحركة حماس». ويذكّر بحجم الاستثمارات القطرية في سوريا «التي ساهمت كثيراً في دفع الاقتصاد السوري إلى الأمام». ويحمّل الصحافي السوري فضائية «الجزيرة» مسؤولية كبيرة في الخلافات. ويلفت إلى أن «النهج الذي اتبعته «الجزيرة» بات واضحاً للجميع، عندما اختارت الوقوف مع الشارع بنحو معاد للخطاب الرسمي»، ناقلاً عن المدير العام للشبكة وضاح خنفر انه سيبقى على «هذا النهج حتى سقوط الرئيس بشار الأسد». لكن عبد الرزاق يعترف بأن التلفزيون المذكور، ورغم كونه مؤسسة خاصة غير حكومية، تعكس سياسته التحريرية «الرأي الرسمي القطري، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على تغير السياسة القطرية تجاه سوريا».
وعن إمكانية عودة العلاقات إلى ما كانت عليه سابقاً، يركّز عبد الرزاق على نقطتين: الأولى هي الزيارة الرسمية التي قام بها جنبلاط لقطر «لإعادة المياه للعلاقات السورية ـــــ القطرية إلى مجراها»، وفيها «ربما لم يجد آذاناً صاغية لدى أمير قطر». أما الثانية، فهي «الاعتداء على السفارة القطرية في دمشق، الذي فُسر على أنه مساس بسيادة الدولة القطرية». وهنا، يؤكد عبد الرزاق أن الدوحة ضخّمت الحساسية الدبلوماسية «رغم تقديم الخارجية السورية اعتذاراً عما جرى». ويرى أن ما قامت به قطر هو «فعل استفزازي واضح»، على قاعدة أن الاعتداء «لا يتطلب سحب السفير القطري، أسوة بالسفيرين الأميركي والفرنسي، علماً أن ما حصل للسفارة القطرية هو أقل بكثير مما حصل مع السفارتين الفرنسية والأميركية». ويخلص عبد الرزاق إلى أن «قطر هي التي تحاول تأجيج الخلافات، ولو كانت حريصة على حسن النوايا، لتريثت قليلاً وتقدمت بشكوى رسمية كما فعلت واشنطن وباريس». في النهاية، يتوقع عبد الرزاق أن «تعود العلاقات الثنائية إلى ما كانت عليه سابقاً، لكن ليس في الفترة القريبة المقبلة، بعدما وصلت الأزمة إلى ذروتها». لا بل إنه لا يستبعد أن تعود العلاقات الجيدة بين الحكومتين السورية والتركية «إذ أتوقع أن تقوم أنقرة بدور العراب لإعادة العلاقات السورية ـــــ القطرية إلى ما كانت عليه سابقاً».
غير أنّ مدير تحرير جريدة «الثورة» الحكومية، مصطفى المقداد، لا يوافق مواطنه عبد الرزاق في تحميل قناة «الجزيرة» المسؤولية كاملة عن الخلافات بين الحكومتين، مشيراً إلى أن «كلا الطرفين يحاولان ضبط النفس على المستوى الرسمي منذ بداية تفجر الاحتجاجات السورية، والحملة الشعبية ضد قناة الجزيرة». ويشدد المقداد على أهمية عدم خروج تصريحات سياسية رسمية عن الأزمة بين البلدين من الطرفين، «وأنا سمعت شخصياً تصريحات مختلفة لعدد من المسؤولين الدبلوماسيين السوريين خلال الفترة الماضية، تفيد بأن قطر لا تزال تدعم الموقف السوري المقاوم».
ويعزو المقداد سبب حرص الحكومتين على التهدئة الرسمية بـ«متانة العلاقات التي تم بناؤها خلال السنوات الخمس الماضية، أما الجزيرة فهي لا تمثل الجانب القطري الرسمي». وفي السياق، يرى المقداد أن «عودة العلاقات إلى ما كانت عليه سابقاً أمر ممكن جداً، ليس بين قطر وسوريا فقط، بل بين قطر وبقية الدول العربية الأخرى».



محمد حبش: القطريون لا يتآمرون علينا

رأى عضو مجلس الشعب السوري، محمد حبش (الصورة)، أن «الإشكال بين دمشق والدوحة لن يدوم طويلاً»، مشيراً الى أن «هناك تاريخاً مشتركاً بين سوريا وقطر». وأكّد، في مقابلة مع موقع «الانتقاد»، أن «الخلاف في وجهات النظر بشأن طريقة دمشق في حل المشكلة الداخلية لن يؤدي إلى قطيعة بين البلدين»، ووصف هذا الخلاف بأنه «مرحلة عابرة»، موضحاً أن «موقف الإخوة القطريين يعمل باتجاه تأمين مصالحة في سوريا». وفي السياق، أعرب النائب عن اقتناعه بأن القطريين «لا يتآمرون على سوريا، والأمر مجرد اختلاف في وجهات النظر نأمل أن يزول قريباً». أما عن تعاطي فضائية «الجزيرة» مع الحدث السوري، فطمأن حبش إلى أن ذلك «لن يؤثر باتجاه القطيعة بين دمشق والدوحة»، لافتاً إلى أن «مشروع الجزيرة» عندما طُرح، «كان كل العرب يعرفون أنها جزء من البرنامج الأميركي لنشر الديموقراطية في العالم».