دمشق | قلوب السوريين معلقة حول حدود حمص؛ فالمدينة التي لطالما صنعت البهجة لمجرد ذكر اسمها في حديث السوريين، باتت الآن تصدّر الدماء وحكايات القتل والرعب. حواجز أمنية انتشرت بكثرة على مداخلها، تدقيق شديد في الأوراق الثبوتية، أما الخروج من حدود مدينة خالد بن الوليد مسموح، لكن دخولها يخضع لطبيعة الأحداث ومدى حدتها. ومن الطبيعي إذاً أن تعود حافلات الركاب أدراجها، أو أن يجد سائقها، حسب خبرته، مدخلاً آخر للعبور إلى المدينة.
حمص كغيرها من المدن السورية مقسمة إلى مناطق سكنية، تسودها انتماءات طائفية باتت واضحة تماماً مع بداية الأحداث، هذا ما يؤكده سمير ابن الـ34 عاماً، وهو متخرج جامعي، غادر منطقة باب عمرو الواقعة في منتصف مدينة حمص قبل 15 يوماً، إلى العاصمة دمشق ليبقى على اتصال دائم مع أهله.
يروي سمير بعض مما عايشته المدينة، مؤكداً أن «أولى التظاهرات في مدينة حمص، خرجت من جامع خالد بن الوليد، مع بداية الأسبوع الثاني من أحداث درعا». ويشرح حقيقة تعامل الأمن مع التظاهرة الأولى، قائلاً: «تعاملت معنا الأجهزة الأمنية بعنف شديد، لكن لم يقتل أحد في ذلك اليوم»، أغلقت السلطات الرسمية جامع خالد بن الوليد، بحجة «إجراء إصلاحات والصيانة»، كما حدث مع عدد كبير من جوامع المدينة التي خرجت منها تظاهرات لاحقاً.
أما الشرارة الأولى التي غيرت مجرى الأحداث في المدينة وأشعلت فتيل الانتفاضة، فجاءت مع اعتداء المتظاهرين على نادي الضباط، وتمزيقهم صورة كبيرة للرئيس السوري بشار الأسد، التي كانت تعتلي مدخله، سقط على أثرها عدد من القتلى، واعتقل عدد كبير من المتظاهرين، وقدم من مزق الصورة إلى القضاء. اتسعت بعدها دائرة التظاهرات، وتحولت إلى طقس شبه يومي في مناطق متفرقة من المدينة، مثل باب عمرو، باب السباع، منطقة الوعر أو التي تُسمى حمص الجديدة، وصولاً إلى ريف المدينة، مثل منطقة تلبيسة، الرستن وتل كلخ، التي شهدت لاحقاً مواجهات دامية بين وحدات الجيش السوري، ومجموعات إرهابية مسلحة، حسب الرواية الرسمية التي قدمها النظام السوري.
يؤكد سمير أن التصعيد في الأحداث الذي تعيشه مدينته حالياً، والذي وصل إلى حد العنف والقتل بين السكان، سببته عوامل كثيرة؛ «تعرضت الأحياء ذات الغالبية السنية في المدينة، مثل باب عمرو، باب السباع، الإنشاءات، دير بعلبة وغيرها، لتشديد أمني، وحملات اعتقال، دون مناطق أو أحياء أخرى ذات الأغلبية العلوية، مثل حي الزهراء، والنزهة، ما ساعد على تأجيج المشاعر الطائفية، وخصوصاً بعد انتشار ما سمي اللجان الشعبية بالتعاون مع أجهزة الأمن، لحماية المناطق التي لم يعتقل أحد منها».
كذلك شهدت المدينة عنفاً غير مسبوق، وإطلاق رصاص على المتظاهرين، وحوادث قتل بُررت بأنها وقعت بطرق الخطأ على يد عناصر من اللجان الشعبية، ما تطلب إصدار أوامر سريعة من جهات رفيعة المستوى في السلطة السورية، بإلغاء اللجان الشعبية، وإدخال الجيش إلى المدينة للسيطرة على الأوضاع. «نسب الإعلام الرسمي مجمل عمليات القتل والاعتداء على الممتلكات إلى العصابات المسلحة والمندسة»، يضيف سمير.
ينتقل سمير للحديث عما يسمى «التظاهرات الطيارة»، وهي تظاهرات سريعة، تخرج في مساء كل يوم من مناطق وأحياء متفرقة في المدينة، لا يستمر التظاهر فيها أكثر من نصف ساعة «حتى لا تتمكن الأجهزة الأمنية من محاصرة التظاهرة، والاعتداء على من فيها أو اعتقالهم»، مؤكداً أن «هذه التظاهرات انتشرت بسرعة كبيرة في أحياء مختلفة، وباتت تستفز سكان المناطق الأخرى وعناصر الأمن على حد سواء»، مؤكداً في الوقت نفسه أن تشييع القتلى الذين يسقطون برصاص الأمن السوري، تحول إلى مناسبة للتظاهر «مهما كان التوقيت الذي تختاره الأجهزة الأمنية لتسليم جثامين الشهداء».
كذلك يحكي سمير عن تفاصيل الاعتصام الذي حاول المتظاهرون إقامته في ساحة الساعة، إحدى أكبر الساحات الواقعة وسط المدينة، قائلاً: «لم يكن أحد يخطط لهذا الاعتصام، لكنه جاء بسبب التضييق الأمني الشديد الذي فرضته أجهزة الأمنية وعناصرها على أطراف المدينة». وأضاف: «بعد تشييع المتظاهرين لعدد من الشهداء، هرب المشيعون إلى وسط المدينة وصولاً إلى ساحة الساعة، التي تجمع فيها عشرات الآلاف على نحو عفوي»، ربما الصور التي كانت تصل من ميدان التحرير وسط القاهرة، بقيت عالقة في أذهان المتظاهرين، وحفزتهم على إقامة اعتصام مماثل وسط مدينتهم. ويضيف: «تبرع عدد كبير من الأهالي بالطعام والأغطية والخيم للاعتصام، لكن هذا لم يرق قادة الأجهزة الأمنية، ما أدخلنا في مفاوضات طويلة، انتهت في الساعة الواحدة ليلاً، بإطلاق نار كثيف على نحو 20 ألف معتصم صمموا قضاء الليل في الساحة، انتهى الأمر بسقوط عدد من الشهداء، وعدد أكبر من الجرحى. وبالطبع، نجحت الأجهزة الأمنية في إنهاء الاعتصام».
ومنذ ذلك اليوم تحولت حمص إلى مدينة قابعة على فوهة بركان من نار، هذا ما يؤكده الوجود الدائم للدبابات والقطع العسكرية وعناصر من الجيش في مناطق محددة من المدينة التي تتعرض دائماً لحملات اعتقالات وتمشيط ودهم. لكن ظهور صور جثث مثّل القتلة بها، تعود لأربعة شبان من منطقة الزهراء ذات الغالبية العلويـة، يؤكد أن الحساسيات الطائفية باتت شبه مسيطرة على الأحداث في حمص، ما تطلب من الجيش تصعيداً في عملياته ضمن المدينة.
في هذه الأثناء، أنباء متفرقة تصل باستمرار من داخل مدينة حمص، تفيد بتصاعد الأحداث الدموية، والعمليات التخريبية التي كان آخرها تفجيران حصلا داخل الكلية الحربية.

الخارجية الفرنسية تستعد لتنحية شوفالييه!




يبدو أن زيارة السفير الفرنسي، إيريك شوفالييه، إلى مدينة حماه ستؤدي إلى إطاحته من منصبه، بعدما أسهمت خطوته غير المتفق عليها مع وزارة الخارجية، إلى جانب التحفظات عليه من جانب كادر الـ «كي دورسيه»، في فقدان الثقة به

باريس ــ عثمان تزغارت
كشف مصدر دبلوماسي فرنسي لـ «الأخبار» أن وزير الخارجية ألان جوبيه يستعد لتنحية السفير الفرنسي في دمشق، إيريك شوفالييه. وأوضح المصدر، المطلع على نحو وثيق على التجاذبات التي تدور منذ أسابيع في كواليس الدبلوماسية الفرنسية، أن القطرة التي أفاضت الكأس في «قضية شوفالييه»، كانت مبادرته بزيارة حماه، أسوةً بما فعله السفير الأميركي، روبرت فورد، من دون إبلاغ الخارجية الفرنسية مسبقاً بهذه الخطوة.
وقد أثارت هذه المبادرة، وما تبعها من تجمعات وهجمات على مقر السفارة الفرنسية في دمشق، حفيظة جوبيه، الذي أكّد لمقربيه أن قراره بتنحية شوفالييه قد اتُّخذ ولا رجعة عنه. وأضاف المصدر الفرنسي إن «واقعة حماه» مثّلت فصلاً جديداً في مسلسل طويل من العلاقات المتوترة بين السفير شوفالييه والـ «كي دورسيه»، التي تعود إلى فترة تولي برنار كوشنير الوزارة، وخصوصاً عندما أغدق عليه هذا الأخير في أيار 2009، ترقية إدارية غير اعتيادية تمهيداً لتعيينه سفيراً، ليصبح «وزيراً متعدد الصلاحيات»، وهي الرتبة الإدارية الأرقى في السلّم الدبلوماسي الفرنسي، ما أثار استهجان الإستبلشمنت الدبلوماسي، الذي احتج على «الطابع غير النظامي» للترقية.
وترجمت التجاذبات القوية في كواليس وزارة الخارجية، في ترشيح شوفالييه لمناصب في سفارات ذات أهمية ثانوية، مثل هايتي والأردن، لكنه رفض ذلك، وأصرّ على أن يجري تعيينه في سفارة ذات أهمية استراتيجية تليق بمقامه ورتبته الجديدة. ومع إدراكه أن نجم ولي نعمته، كوشنير، كان قد بدأ آنذاك في الأفول، لجأ شوفالييه إلى الأمين العام لقصر الرئاسية، آنذاك، وزير الداخلية الحالي كلود غيّون. وذكّر «حافظ أسرار ساركوزي» بأنه كان مهندس «دبلوماسية الصدمة»، التي جرى التخطيط لها في ديوان الوزير كوشنير، وأدّت إلى «سياسة اليد الممدودة» تجاه سوريا.
اقتنع كلود غيون بمرافعة شوفالييه، ونجح في إقناع ساركوزي بتعيينه سفيراً في دمشق، بوصفه الشخص الأمثل لمواصلة وتكريس سياسة التقارب مع دمشق.
وفي شباط الماضي، مع تولي آلان جوبيه منصب وزارة الخارجية، شنت السّرايا الدبلوماسية حرباً بلا هوادة ضد بقايا رموز العهد الكوشنيري، وفي مقدمتهم السفير إيريك شوفالييه. وبلغت تلك الحملة أوجها في نيسان الماضي، على أثر برقية دبلوماسية حرّرها الأخير، في بداية الحركات الاحتجاجية في سوريا أوصى من خلالها بـ «منح فسحة من الوقت للرئيس السوري بشار الأسد لمعالجة الأمور»، مبرّراً ذلك بقوله إن «الرئيس السوري يريد الإصلاح (...) ولا يجوز الاستبعاد بأن تكون هناك أطراف خارجية تعمل، بالفعل، على تغذية الاحتجاجات والتظاهرات...»
عثر خصوم شوفالييه على الفرصة التي كانوا يتحيّنونها للإجهاز عليه. ولم تلبث أصداء حملتهم ضدّه أن وصلت إلى قصر «الإليزيه»، لتفجر إحدى «نوبات الغضب المدوية» التي يشتهر بها الرئيس ساركوزي، بعدما بدأت تتسرّب إلى الصحف الفرنسية معلومات تصف السفير شوفالييه بأنه أصبح «بشّارياً» حتى النخاع، وأنه لا يزال مستمراً، حتى بعد اندلاع التظاهرات، في دعوة رجل الأعمال المقرب من الرئيس السوري، رامي مخلوف، على الغداء في مقر إقامته الرسمية.
كادت «الغضبة الرئاسية» تعصف بالسفير شوفالييه، لكن ولي نعمته الجديد، كلود غيون، شفع له مجدداً لدى الإليزيه، شارحاً للرئيس ساكوزي بأنه لا ضير في أن يستقبل سفير فرنسي مختلف الشخصيات العامة، بمن فيها الأكثر إثارة للجدل، لسماع مختلف وجهات النظر، وتكوين رؤية شاملة للأوضاع، فذلك من أبجديات العمل الدبلوماسي.
ساد الاعتقاد، لبعض الوقت، بأن الغضبة الساركوزية ضد إيريك شوفالييه مرت بسلام، لكن اسمه سرعان ما برز مجدداً في ملف آخر. فبعد الفضيحة الجنسية التي أودت بالمرشح الرئاسي دومينيك شتروس ـــــ كان، تركزت سهام الفريق الرئاسي على المرشحة الاشتراكية البديلة الأبرز مارتين أوبري. وكُلّفت مديرية الأمن الداخلي بإعداد تقرير شامل عن كل الشخصيات المقربة من أوبري في الجهاز الإداري الفرنسي، ليتبين أن شوفالييه متزوج إحدى مستشارات أوبري في المكتب السياسي للحزب الاشتراكي، ما عصف بآخر ما بقي له من رصيد الثقة لدى الرئيس ساركوزي، فأصبح يطالب آلان جوبيه برأس شوفالييه في الحال.
ويرجح المصدر الدبلوماسي بأن شوفالييه أدرك أن أي وساطة لن تشفع له هذه المرة. لذا أقدم على مبادرته المثيرة للجدل بزيارة حماه، دون أي اتفاق مسبق مع وزارة الخارجية الفرنسية، مراهناً بأن الانتقادات الرسمية السورية التي ستثيرها ـــــ لا محالة ـــــ خطوة كهذه، من شأنها أن تضع الحكومة الفرنسية في حرج، بحيث لا يمكن أن تُقدم على عزل سفير يتعرض لـ «حملة شرسة بسبب تعاطفه مع ربيع الثورات العربية».
لكن العارفين بفكر ومنهج وزير الخارجية آلان جوبيه يجزمون بأن مثل هذه الاعتبارات لن تدفعه إلى التراجع عن قراره بعزل إيريك شوفالييه. وذلك ليس فقط بسبب الضغوط الساركوزية التي تطالب برأسه، بل لأن جوبيه ـــــ الديغولي يستهجن بشدة، كما يقول المقربون منه، أن يجري التلاعب بصدقية وهيبة الدبلوماسية الفرنسية من أجل اعتبارات شخصية بمثل هذه «الوضاعة».