باريس | رغم دخول عملية حلف شمالي الأطلسي، شهرها الخامس في ليبيا، لم تجد الضربات الجوية نفعاً. كذلك لم تفلح شحنات الأسلحة التي تم مدّ الثوار بها فرنسا وقطر، في ترجيح ميزان القوى فعلياً على الأرض، بما من شأنه أن يُفضي إلى حسم المواجهة عسكرياً، وبالتالي إرغام العقيد معمر القذافي على التنحي. كل ذلك ليس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد، حيث تُثار مخاوف وشكوك أكثر حدة من تلك التي يطرحها مأزق التخبّط العسكري الحالي. ويتعلق الأمر بغياب استراتيجية واضحة لإدارة «سيناريوهات اليوم الموالي»، أي مستقبل الوضع في «ليبيا ما بعد القذافي».
لقد انعكست هذه المخاوف من خلال تشكيل خليتي أزمة في وزارتي خارجية فرنسا وبريطانيا. تحمل اللجنة التي ألّفتها وزارة الخارجية الفرنسية اسم «فريق عمل ما بعد النزاع»، فيما نظيرتها الإنكليزية اتخذت شكل «فريق خبراء» تابع لـ«قسم التعاون الدولي» في الوزارة.
كل واحدة من هاتين اللجنتين تعكف على بلورة ودراسة مختلف السيناريوهات المُحتملة لترتيب مستقبل الأوضاع في ليبيا ما بعد القذافي. ويمثّل رحيل العقيد عن الحكم نقطة إجماع بين الخبراء الفرنسيين والإنكليز. لكن السيناريوهات المتوقعة في هذا الشأن تتراوح بين الاحتمالات القصوى، كأن يُقتل القذافي أو يُعتقل، وبين الحلول الوسطى المتمثلة في التوصل إلى «تسوية» يتنحّى بموجبها القذافي عن الحكم «طواعية»، للانتقال إلى المنفى خارج ليبيا، أو الاعتزال في معقله الصحراوي، قرب واحة «سبها».
تشير توقعات فريق الخبراء الفرنسيين إلى أن مقتل القذافي أو اعتقاله يمكن أن يحصل بأيدي «ثوار» المجلس الانتقالي، وهو ما يرونه احتمالاً «ضئيل الترجيح في ظل المعطيات الحالية»، أو على أيدي مُقرّبين منه يمكن أن ينقلبوا عليه، وهو الاحتمال الذي يصفونه بأنه «الأكثر ترجيحاً»، ولكن بشرط أن تنجح الحملة العسكرية في «تضييق الخناق على القوات الموالية للقذافي إلى درجة كفيلة بأن تدفع كبار الضباط المحيطين به إلى الانقلاب عليه أو تصفيته، إذا تبيّن لهم أن ذلك هو المنفذ الوحيد لإنقاذ حياتهم ومصالحهم».
أما الحلول الوسطى المنصبّة على البحث عن «تسوية» يتنحّى بموجبها القذافي، ليغادر إلى المنفى أو إلى عزلته في الصحراء، فتتضارب بشأنها المقاربات والتوقعات. يراهن فريق الخبراء البريطانيّين على «الدبلوماسية الموازية» لفتح قنوات اتّصال سريّة مع مفوّضين عن القذافي للتباحث معهم حول الشروط والضمانات التي يرى «القائد الليبي» أنها كفيلة بإيجاد مخرج يغادر بموجبه الحكم طواعية، حقناً للدماء، وتمهيداً لإقامة «حكومة مصالحة وطنية» تضم مختلف الفرقاء الليبيّين بمن فيهم أنصار القذافي الحاليّون.
ويذكر الخبراء البريطانيون أن مبادرات عدة تم إطلاقها في هذا الشأن، منها مشروع وساطة إيطالية في أيار الماضي، لكنه لم يعمر طويلاً، لأن الشروط «لم تكن قد نضجت، آنذاك، لإقناع القذافي بالتنحي خدمة للمصالح العليا للوطن». وهناك مشروع آخر أميركي تمثّل في مباحثات سريّة طويلة جرت بين مبعوثين أميركيين وموفدين مقرّبين من القذافي، في منتصف تموز الماضي، في تونس. وبالرغم من أن هذه المباحثات لم تؤدّ إلى نتائج ملموسة، يرى الخبراء البريطانيّون أنها كانت «مفيدة»، لأنها كشفت أن «فكرة التنحي بدأت تنضج في رأس العقيد القذافي». فبعدما رفض ذلك قطعياً، خلال الوساطة الإيطالية، بدأ يبدي نوعاً من الاستعداد المبدئي لقبول فكرة «اعتزال الحكم». لكن المقترح الذي تقدّم به المقرّبون منه خلال «مباحثات تونس» وُصف بأنه «كان دون السقف الأدنى المقبول بالنسبة إلى المنظومة الدولية». عن هذا المقترح كشفت تسريبات إعلامية أن «العقيد» طرح على المبعوثين الأميركيين أن يتخلى عن كل صلاحياته «قائداً للثورة»، ليعتزل في الصحراء، لكن، شريطة أن يكون للمقربين منه، وبالأخص منهم أبناؤه، «مكانهم الطبيعي» في تركيبة «حكومة المصالحة» المعتزم تشكيلها لتسلم الحكم مؤقتاً، بانتظار سن دستور جديد للبلاد. طرح رفضه المبعوثون الأميركيون، على أساس أن «استتباب الأمن ونجاح التحوّل الديموقراطي لا يمكن أن يتحققا سوى بتنحي القذافي وأبنائه وكافة أفراد عائلته من الحكم، بنحو كامل ونهائي».
أما خبراء «فريق عمل ما بعد النزاع» الفرنسي، فقد كانت لهم مقاربة مغايرة للدور الذي يمكن أن تلعبه «الدبلوماسية الموازية». فبالنسبة إليهم، «لا مجال للمراهنة، جدّياً، على مفاوضات مباشرة مع القذافي لإقناعه بالتنحي، ما لم تتغير معطيات موازين القوى جذرياً في المواجهات العسكرية بين الثوار والقوات الموالية له».
في المقابل، يرى الخبراء الفرنسيون أن في الإمكان فتح قنوات سريّة مع عدد من الشخصيات البارزة والمؤثرة في المحيط المُقرّب من القذافي، لإغرائها بالتخلي عنه في مقابل منحها ضمانات بإشراكها في الترتيبات المستقبلية للحكم أو التعهد بعدم تعرضها للمتابعة أو القصاص بعد سقوط النظام الحالي».
وفي حديث لـ«الأخبار»، يرى مصدر مقرّب من الاستخبارات الخارجية الفرنسية أن مبادرات عدة أُطلقت بالفعل، عبر «وسطاء»، لاستمالة بعض المقربين من القذافي. لكن المصدر الاستخباري يضيف «لا يمكن القول، حتى الآن، بأن هذه الجهود أتت ثمارها، علماً أن ذلك لا ينتقص من أهمية هذا النوع من المساعي والاتصالات، لأنه من المهم للغاية أن يعرف المُقرّبون من العقيد القذافي أن هذا المخرج متاح لهم، الشيء الذي سيشجّع بعضهم، لا محالة، على أن يطرقوا هذا الباب في اللحظة الحاسمة التي سيحسّون فيها بأن الظروف قد نضجت لينضموا إلى دينامية التغيير قبل فوات الأوان».
ويبدو، وفقاً لما كشفته صحيفة «لوفيغارو» (راجع «الأخبار» ـ 29/07/2011)، أن واحداً من أبرز المقربين من القذافي أحسّ، بالفعل، بأن تلك «اللحظة الحاسمة» قد حانت، مما دفعه إلى أن يبادر إلى طرق باب الدبلوماسية الفرنسية الموازية. وقد أوردت «لوفيغارو»، وهي صحيفة يمينية معروفة بقربها من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، تفاصيل مثيرة عن الاتصالات السرية التي جرت منتصف تموز الماضي بين الكاتب برنار هنري ـــــ ليفي، الذي نصّب نفسه ناطقاً باسم «ثوار ليبيا»، وبين موفد عن رئيس حكومة القذافي، البغدادي محمودي. وجاءت المبادرة من مدير مكتب المحمودي، الذي سافر خصيصاً إلى باريس، وطلب لقاء ليفي، حيث تحدث اليه «بعيداً عن الأضواء». ونقلت الصحيفة الفرنسية عن ليفي قوله للموفد الليبي إن تنحّي القذافي أمر غير قابل للنقاش، وعرض عليه في المقابل ترتيب تسوية مع المحمودي وعدد من «التكنوقراط» الليبيين، «ممن لم تتلطّخ أيديهم بالدماء»، في المعسكر الموالي للقذافي. وعلى هذا الأساس، قام رتّب ليفي لقاءً ثانياً في بيته، بتاريخ 15 تموز حضره موفد رئيس حكومة القذافي وممثل عن المجلس الانتقالي يُعتقَد أنه محمود جبريل، الذي يوصف بأنه «الرجل الثاني» في هذا المجلس.
هذه المساعي الهادفة إلى استمالة بعض «المعتدلين» في المعكسر الموالي للقذافي وردت ضمن ثلاثة سيناريوهات تم بحثها «فريق عمل ما بعد النزاع» في الخارجية الفرنسية، ضمن ترتيباب «اليوم الموالي» في ليبيا، أي الإجراءات التي يجب أن تواكب الفترة الانتقالية الموالية لإطاحة القذافي، من أجل تفادي حدوث «فراغ مؤسساتي» من شأنه أن يؤدي إلى «انهيار الدولة» أو إلى الاقتتال الأهلي. اللافت أن «السيناريو الأصلي»، الذي كان الرهان عليه في البداية من خلال تسليح «المجلس الانتقالي» ودعمه بضربات الأطلسي الجوية، ليزحف على معاقل القذافي كي يطيحه عسكرياً، بات أمراً «مستبعداً جداً»، حسب الخبراء الفرنسيين، في ظل «تخبط الأداء العسكري للثوار في ليبيا». بالتالي، بدأ التفكير في «صيغ بديلة» تهدف للتوصل إلى تنحية القذافي في مقابل إشراك التيارات الموالية له في ترتيبات المرحلة الانتقالية.
ويطرح فريق الخبراء الفرنسيين سيناريوهين مختلفين لتحقيق هذه «الصيغ البديلة» لحل النزاع في ليبيا:
1ـ التفاوض مباشرة مع القذافي، لإقناعه باعتزال الحكم طواعية، في مقابل إشراك التيارات الموالية له في ترتيبات الفترة الانتقالية. 2 ـ استمالة أركان المعسكر الموالي للقذافي، لدفعهم إلى التخلي عنه، سواء بالانقلاب عليه أو بالضغط عليه لإرغامه مع التنحي.
أما «فريق الخبراء» التابع للخارجية البريطانية، فيرى أن المصاعب الأكبر التي ستواجه «ترتيبات اليوم الموالي» في ليبيا لا تكمن فقط في التوصل إلى «صيغة ما» تؤدي إلى رحيل القذافي عن الحكم، بل هناك «شكوك جدّية» في قدرة الفرقاء الليبيين على ضبط الأوضاع بعد سقوط القذافي، سواء تعلّق الأمر بانهيار كامل لنظام القذافي أو بـ«صيغة توافقية» بين الثوار ومعسكر الموالاة. ويخشى الخبراء البريطانيون أن يؤدي ذلك إلى حالة من الاقتتال والفوضى تعوق مسار التحول الديموقراطي ومساعي «إعادة البناء». لذا، يوصي الخبراء البريطانيون بالاستناد إلى الأمم المتحدة، بنشر قوات تسهر على ضبط الأمن وإدارة المرحلة الانتقالية. لكن الخبراء الفرنسيين يحذّرون من أن سيناريو «الاقتتال المحدود» وفق «السيناريو العراقي» قد يتفاقم بسرعة إلى انهيار كامل للدولة. خصوصاً أن النزاعات المتوقعة في ليبيا ما بعد القذافي لا تقتصر فقط على تصفية رموز النظام السابق أو تقاسم الأدوار السياسية بين مختلف الفرقاء، بل هناك أيضاً توازنات قبائلية شائكة، ومسائل شديدة الحساسية مثل تحديد آليات تقاسم الريع النفطي. لذا، يوصي فريق الخبراء الفرنسيين بعدم الاكتفاء بنشر قوات للأمم المتحدة، محذّرين من بطء الإجراءات في المنظمة الأممية، حيث لا يمكن طرح الموضوع على مجلس الأمن سوى بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار، ورحيل القذافي رسمياً عن الحكم. كذلك يتطلب نشر القوات الأممية شهراً على الأقل، بدءاً من تاريخ الاقتراع على قرار من مجلس الأمن. لذا يجب التفكير في نشر «قوات دولية انتقالية» تتولى ضبط الأمن مؤقتاً. تجاوباً مع هذه التوصية، شرع ساركوزي، وفقاً لبعض المعلومات التي تسرّبت إلى الصحف الفرنسية، في مساع دبلوماسية بهدف تشكيل فيلقين من ألفي جندي من القوات الدولية المتعددة الجنسيات، لنشرها في ليبيا فور سقوط القذافي.



تسريبات أم حرب نفسية؟

أثار ما كشفته « لوفيغارو» من معلومات عن المفاوضات السرية التي أشرف عليها الصحافي برنار هنري ــــــ ليفي بين موفد رئيس حكومة القذافي والرجل الثاني في المجلس الانتقالي محمود جبريل (الصورة)، تساؤلات كثيرة، لا سيما أن الكشف عن ذلك جاء بعد مرور شهر ونصف على انعقاد «اللقاء السري». ولم يأت التسريب من صحف المعارضة، بل من «لوفيغارو» المقربة من الرئيس ساركوزي ومن الفيلسوف الفرنسي. بعض المحللين رحجوا أن الأمر يندرج ضمن «حرب نفسية» تهدف إلى خلق شرخ بين أقطاب معسكر القذافي، لدفع «العقيد» إلى الشكّ بالمحيطين به، وربما تصفية البعض منهم. بينما رأى آخرون أن هذا التسريب جاء من داخل المجلس الانتقالي لـ«ثوار» ليبيا، حيث هناك «جناح متشدد» يعارض أي تسوية من شأنها أن تؤدي إلى إشراك بعض أقطاب المعسكر الموالي للقذافي في الترتيبات المستقبلية لليبيا ما بعد «الثورة».