ليست الثورات العربية هي من سرقت شعلة الحدث من أطول حرب في القرن بأفغانستان، بل تصميم إدارة الرئيس باراك أوباما منذ وصولها إلى السلطة في 2009 على إخراج قواتها من المستنقع الأفغاني بنحو مشرِّف. إلا أن تطوُّر الأحداث يشير إلى أنّ واشنطن لن تستطيع تحقيق حتى هذا الهدف. الخسائر في أرواح الجنود الأميركيين تنمو باطراد، ومشروع المصالحة مع حركة «طالبان» واستيعاب عناصرها يلفه الغموض أخرجته إدارة أوباما من الغرف المغلقة، وباتت تستجديه وتطلبه صراحةً، حتى بات الحديث عن تحقيق الديموقراطية ومكافحة الفساد المستشري في الدولة الأفغانية، أشبه بنكتةٍ.
في حزيران الماضي، أعلن الرئيس الأميركي أن أهداف الحرب في أفغانستان قد تحقّقت، وأن المهمّة قد أُنجزت، وبالتالي حان الوقت لعودة الجنود إلى ديارهم. عرض أوباما خطته للانسحاب التدريجي الذي بدأ من تموز الماضي، وينتهي بإخراج أكثر من 100 ألف جندي أميركي في 2014. قال في حينها: «أميركا، حان الوقت كي نركز على بناء الدولة هنا في منزلنا». الخطة قضت بانسحاب 10 آلاف جندي مع نهاية العام الجاري، أما الـ20 ألف جندي الذين أدخلهم المستنقع الأفغاني صيف 2009، في إطار ما سُمي «الجراحة»، فيتوقع أن يغادروا في الصيف المقبل. وبالنسبة إلى المرحلة التالية، فسيُحدد فيها مصير بقيّة القوات، على أن تنسحب جميعها في 2014، وتسلّم المهمة إلى السلطات الأفغانية.

قراءة في الخسائر

حين وضع أوباما مع فريقه الأمني والاستخباري الواسع خطة للحرب في أفغانستان في منتصف 2009، كان الهدف إنهاء الحرب التي بدأها سلفه جورج بوش. قام من أجل ذلك بتعيين فريق حربي على رأسه الجنرال ستانلي ماكريستال، ثم عاد واستبدل الأخير بعد «تصريحات فظة بحق رجال إدارة أوباما» بالجنرال دايفيد بترايوس، رجل المهمات الصعبة الذي ظفر لهم بحرب العراق وفق استراتيجية اعتمدت على عنصرين: الإغراق العسكري بالتزامن مع خطة للمصالحة وجذب العشائر.
خطة لم يعرف أوباما غيرها، وأراد إسقاطها على أفغانستان، فيما اتفق الجميع على أن هذا البلد ليس العراق، لا في تركيبته القبلية والسكانية ولا حتى الجغرافية. وإن كان العدو الأساسي والظاهر لهم في الحالتين كان تنظيم «القاعدة» ومن يواليه، فإن بلاد الرافدين كانت بالنسبة إلى تنظيم أسامة بن لادن عارضاً طارئاً، أما أفغانستان فهي «بيته ومنشأه»، فيها نما وترعرع. أضف أنّ حركة «طالبان» التي أُخرجت من الحكم، ليست نظام صدام حسين، ويستحيل الظفر بحرب ضدها في ديارها. لم يغفل الأميركيون ذلك، لهذا بدأوا برنامجاً للمصالحة مع الحركة بهدف ضمان مشاركتها في الحكم.
في تقييم العنصر الأول من الخطة، الذي تضمن إرسال 20 ألف عنصر إضافي الى أفغانستان من أجل تحقيق انجازات ميدانية ثم سحب هذه القوات في إطار خطة «الإغراق»، تشير الأرقام إلى كوارث، لا إنجاز كما زعم أوباما الذي لم ينجح حتى في المحافظة على مستوى الخسائر في الحرب. وكان اللافت التعتيم الإعلامي على هذا الوضع، على عكس ما كانت عليه الحال إبان إدارة بوش. حينها، كان الديموقراطيون يشنّون حملة شرسة على الادارة الجمهورية لتسليط الضوء على الجنود الأميركيين الذين يُقتلون من أجل حرب وبلاد ليست لهم. تبيّن فيما بعد أن سبب هذا السلوك كان مجرد امتطاء حرب أفغانستان لدخول البيت الأبيض، وهو ما حصل.
مع خطة أوباما، وقعت خسائر جسيمة في الأرواح. قُتل أكثر من 317 جندياً أميركياً في 2009 من بين 521 قتيلاً أطلسياً، وكان عام 2010 دموياً، حيث ناهز عدد القتلى 499 جندياً أميركياً من 711 جندياً أطلسياً، ولم يأفل عام 2011 حتى أصبح قتلى الجيش الأميركي 234 من 328 أطلسياً، قبل أن يرتفع هذا الرقم دراماتيكياً مع «إسقاط» طائرة أميركية قبل يومين ومقتل ما يزيد على 31 جندياً أميركيا فيها، اضافة إلى 7 جنود أفغان، في عملية هي الأكثر دموية منذ اجتياح أفغانستان في أواخر 2001.
طبعاً أرقام الخسائر في عهد بوش لا ترقى إلى أرقام عهد أوباما. في المحصلة، تجاوزت خسائر الأرواح في السنوات الثلاث الماضية 1600 جندي أطلسي من أصل 2638 من إجمالي قتلى الحرب التي تدنو من اجتياز سنواتها العشر.
الإنجاز الوحيد لإدارة أوباما، أو ما يعدّه هو كذلك، كان اغتيال بن لادن في عملية أميركية داخل مجمع في أبوتاباد الباكستانية. وهنا، لا بد من الاشارة إلى أنها عملية تحوم حولها الكثير من الشبهات، لا سيما أن تقارير ماضية تحدثت عن أن الادارة الأميركية في عهد بوش علمت في كثير من المناسبات مكان زعيم «القاعدة»، لكن لم تتم تصفيته بسبب حسابات أميركية خاصة. أراد أوباما أن يقطف هذا الإنجاز بعدما ارتأى فريقه أنّ «فزاعة بن لادن» لم تعد ضرورية. هكذا، تحول اغتيال بن لادن إلى ستار لـ«إنجاز المهمة»، لكنه لم يكن كافياً للتغطية على الوقائع الميدانية الكارثية، وفشل العنصر الأول من الخطة الحربية.

المصالحة مع «طالبان»

العنصر الثاني في استراتيجيا الحرب ينطوي على مصالحة حركة «طالبان» والاتفاق معها على صيغة للمشاركة في الحكم. هنا، تجدر الاشارة إلى أنّ «طالبان» تتقدّم حركات التمرّد في أفغانستان، لكنها ليست الوحيدة؛ فهناك مجموعة من الحركات التي تقاتل القوات الأطلسية ولها وزنها وشروطها كـ«شبكة حقاني»، فضلاً عن تنظيم «القاعدة» الذي يتحرك بين أفغانستان وباكستان ويحظى برعاية «طالبان». وعقدة الخلاف بين الأميركيين وحركات التمرّد في ملف المصالحة تكمن بصورة أساسية في رفع الغطاء عن عناصر «القاعدة» من عدمه.
والتواصل مع حركات التمرّد لم يجر في بدايته مباشرة. هذا ما خرج إلى العلن على الأقل؛ فقد بدأ من خلال مشروع أطلقه الرئيس الأفغاني حميد قرضاي بغرض استقطاب المقاتلين ودمجهم في السلطة، بمباركة ودعم أميركيَّين. وفي هذه الأثناء، برز دور فاعل لباكستان، التي أكّدت حقها في القيام بدور أساسي في هذه المصالحة والاحتفاظ بنفوذها في أفغانستان ما بعد الانسحاب، بعدما لاحت بوادر تهميشها في مشروع كهذا.
الموقف الباكستاني لم يأتِ من عدم، إذ تمتلك إسلام آباد نفوذاً كبيراً داخل حركات التمرّد التي ساهمت في إنشاء ورعاية وتمويل بعضها، وفي مقدّمتها «القاعدة». هي علاقة لم تنقطع أصلاً، بل نمت وتطورت سرّاً، وخلقت مشكلة بين الادارة الأميركية وإسلام آباد التي تواجه اتهامات دائمة بتوفير الملاذات الآمنة لقيادات «القاعدة» و«طالبان» في عقر دارها (وهو ما عبّر عنه العثور على بن لادن في وسط منطقة عسكرية باكستانية)، وبالسماح للعناصر المسلحين بالتنقل عبر الحدود لشنّ عمليات ضدّ القوات الأطلسية. وانتظر الأميركيون حتى الشهر الماضي ليعترفوا، للمرة الأولى، وعلى لسان وزير دفاعهم السابق روبرت غيتس، بأنهم يتواصلون مع حركة «طالبان». إعلان أتى في إطار تحضير أجواء الانسحاب، وتصوير أن هناك خروجاً مشرّفاً للقوات الأميركية، على قاعدة أن الحرب أنجزت شيئاً. غير أنّ اليأس الأميركي إزاء هذه المصالحة عبّر عنه أخيراً أوباما عبر تأكيده أن ادارته أولت اهتماماً بالغاً للدور الباكستاني قبل عامين، مشدّداً على ضرورة تدخل إسلام آباد لإنجاز المصالحة.
ورغم الدور الأساسي لباكستان، لا يجدر إغفال دور الفاعلين الإقليميين الآخرين، لا سيما الهند وايران؛ فنيودلهي لا تريد لغريمتها التقليدية باكستان أن تستفرد بالساحة الأفغانية، لهذا كثفت جهودها الدبلوماسية لحجز مقعد لها. أما إيران، فتبدو على وفاق ضمني مع عدوّتها الأميركية في ما يتعلق بالملف الأفغاني، حتى أنها تبدو جاهزة كي تقدّم المعونة لها.
وعند التدقيق في ملف المصالحة المُحاط بالسرّية، ينكشف الفشل «والجهل» الأميركي في هذا المجال أيضاً. ففي أيار الماضي، تمكن بائع أفغاني يدعي الملا أختر منصور من التلاعب بالاستخبارات الأميركية على مدى أشهر، عبر زعمه أنه أحد قادة «طالبان» وفاوضهم على هذا الأساس. تلقّى منهم مساعدات وأموالاً وعقدوا معه 3 اجتماعات، ونقلوه بمروحية عسكرية الى القصر الرئاسي الأفغاني كي يفاوض المسؤولين هناك، ليتبين لاحقاً أنهم وقعوا ضحية خدعة. الحادثة التي حاول الأميركيون التقليل من شأنها تسلط الضوء على جهلهم بطبيعة «عدوّهم» بعد 10 سنوات من الحرب.



إسقاط المروحيّة «حادث معزول»

رأى المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية، الكولونيل ديف لابان، أن إسقاط المروحية على أيدي المقاتلين الأفغان هو حادث معزول لن يؤثر على الاستراتيجيا الأميركية أو على مجريات الحرب. وقال لابان «أنصح الناس بعدم الافراط في دراسة حادث قتالي فردي» قتل فيه 31 جندياً أميركياً. وأضاف «لا يزال عناصر طالبان ينشطون. أبطأنا من تقدّمهم لكنهم لا يزالون قادرين على التسبب بأضرار». وكان مصدر حكومي أفغاني قد أكّد أن المروحية أُسقطت بنيران «طالبان» الذين نصبوا فخاً للقوات الأميركية الخاصة من خلال إعطاء معلومات خاطئة. كما أكد وزير الدفاع الاميركي ليون بانيتا (الصورة) أن الحادث لن يؤدي سوى إلى تعزيز ارادة الولايات المتحدة في الانتصار على «طالبان» و«القاعدة».
(أ ف ب)