باريس | يُثير تجدّد الحديث، أوروربياً وأميركياً، عن فرض عقوبات اقتصادية على سوريا، أو تشديد العقوبات التي كانت قد فُرضت في أيار الماضي، تساؤلات عديدة حول طبيعة هذه العقوبات الدولية ومدى جدّيتها أو فاعليتها، وخصوصاً أن سلاح العقوبات أثبت عدم جدواه على مدى عقدين كاملين في العراق، على سبيل المثال. هذا فضلاً عن أن العديد من الخبراء يرون أنّ الحديث عن هذه العقوبات يُعدّ بمثابة ذرّ الرماد في العيون، في محاولة لمداراة عجز «المجتمع الدولي» عن التحرك باتجاه سوريا بالقدر نفسه من «الفاعلية» التي أبدتها الدول الغربية تجاه الدول العربية الأخرى التي شهدت هبات شعبية، وخصوصاً ليبيا، حيث جرى التدخل عسكرياً لدعم الاحتجاجات التي تحوّلت إلى تمرّد فحرب أهلية. ويقول أستاذ العلوم السياسية بجامعة ليون، والخبير في الشؤون السورية لدى «مركز أبحاث ودراسات المتوسط والشرق الأوسط» (GREMO) فابريس بالنش، إن «هناك إجماعاً دولياً على استحالة أي تحرّك عسكري ضدّ سوريا، فلا الولايات المتحدة الأميركية تريد مثل هذا السيناريو، بينما تسعى إلى إيجاد مخرج للانسحاب من العراق. ولا فرنسا ترغب في تدخل عسكري ثانٍ، في ظلّ الطريق المسدود الذي وصلت إليه الحملة العسكرية التي تقودها في ليبيا».
ويضيف بالنش أنه «لهذه الأسباب، يجري التلويح اليوم بالعقوبات الدولية، في محاولة للبرهنة أنّ المنظومة الدولية لا تتخذ موقفاً لامبالياً تجاه ما يحصل من قمع في سوريا». ويتابع الخبير أنه «إذا طرحنا جانباً هذا الموقف المبدئي، الذي يقتصر على إعلان النوايا، فإن العقوبات عديمة الفاعلية تماماً، إذ إن سوريا لديها اكتفاء ذاتي في مجالين حيويين، هما الطاقة والغذاء، إضافة الى أن انخراطها في التجارة الدولية محدود جداً، وهي ليست أصلاً عضواً في منظمة التجارة العالمية، وهذا ما يتجاهله كثيرون، لذلك لا معنى للحديث عن عقوبات اقتصادية دولية ضدّ سوريا على الصعيدين النظري والعملي».
في المقابل، فإن تصعيد المواقف السعودية والخليجية قد تكون له فاعلية أكبر، بحسب بالنش، تحديداً إذا تُرجم هذا التصعيد بتجميد الاستثمارات في سوريا. لكنه يستدرك قائلاً «صحيح أنّ دول الخليج لديها قدرة أكبر على التأثير الاقتصادي في سوريا، لكنّها تدرك أنها إذا اتخذت قراراً بتجميد استثماراتها أو فرض عقوبات على سوريا، فإن ذلك سيكون له مفعول عكسي على سياساتها الإقليمية، لأنّ تجميد الاستثمارات الخليجية سيزيد من اعتماد سوريا سياسياً واقتصادياً ودفاعياً على غريمتها إيران». ويذكّر في هذا السياق بأن هذا الأمر سيكون مضراً للغاية على بممالك وإمارات الخاليج بما أنهم «حاولوا جاهدين خلال السنوات الماضية جذب سوريا إلى صفهم وإغراءها بغرض التخلي عن تحالفها مع إيران أو حتى تخفيف منسوبه».
من جهة ثانية، لا يتفق الدكتور أنطوان بصبوص، رئيس «مرصد الدول العربية في فرنسا» (OPA)، مع تحليل الاستاذ بالنش. ويقول بصبوص إن «سوريا تدرك جيداً أن التحالف الذي يربطها مع إيران حيوي واستراتيجي، لهذا، فمن السذاجة الاعتقاد بإمكانية استدراج سوريا نحو التخلي عن هذا التحالف لحساب تحالفات أخرى، بما أن دمشق تدرك جيداً أنها ستكون آنية وغير قابلة للاستمرار». ويرى الأستاذ نفسه أنه يمكن إسقاط هذا التحليل على المساعي العربية والخليجية، مثلما يمكن إسقاطه على المساعي الغربية، وخصوصاً الفرنسية منها. ويذكر كيف حاول الرئيس (الفرنسي السابق جاك) شيراك تجربة سياسة «اليد الممدودة» تجاه سوريا، بعد وصول (الرئيس السوري) بشار الأسد إلى الحكم، «لكن الأمر انتهى في آخر عهد شيراك إلى حالة من العداء المعلن بين البلدين، وهو ما دفع بالرئيس (الفرنسي نيكولا) ساركوزي إلى معالجته من خلال محاولة التقرب من سوريا، لكنّ هذه السياسة لم تحقق أي نتائج ملموسة».
وعن الحديث الذي يدور حول العقوبات الدولية، يقول الدكتور بصبوص «لقد وجب على الدول الغربية أن تتحرّك، بأي شكل من الأشكال، حيال ظاهرة العنف المسلّط على المدنيين في سوريا. والدوافع هنا متعدّدة؛ فالحراك الغربي تجاه سوريا هو وسيلة لتدارك القصور والتخبّط اللذين طبعا مواقف العديد من الدول الغربية خلال ثورتي تونس ومصر. كما أنّ الحاجة إلى فعل شيء ما حيال سوريا فرضتها أيضاً السابقة الليبية، إذ لا يجوز التدخل عسكرياً في ليبيا، ثم الوقوف بلامبالاة تجاه القمع الدموي للمتظاهرين الذي يجري في سوريا».
ويؤكّد أنه في ظل استبعاد أي عمل عسكري تجاه سوريا، «لم يبق أمام الدول الغربية سوى سلاح العقوبات»، قبل أن يتساءل عن مدى نجاح مثل هذه العقوبات. ويرجّح بصبوص أن تكون هذه العقوبات مجرد «وسيلة ضغط كفيلة بأن تزيد من الضعف الذي يعانيه الاقتصاد السوري أصلاً، لأن هناك جموداً تاماً في هذه الأيام لحركة السياحة السورية التي كانت مصدراً هاماً للعملة الصعبة»، إضافة إلى أن هناك «هروباً كبيراً للاستثمارات، لا العربية والأجنبية فحسب، بل ثمة هروب للودائع السورية أيضاً إلى خارج البلاد، بدليل أن كمية كبيرة من هذه الودائع خرجت من سوريا وتوجهت خصوصاً نحو دول الجوار»، على حد تعبيره. كلام يختصره بصبوص بالجزم أن العقوبات، إضافة إلى بُعدها المعنوي والمبدئي، «لها تأثير اقتصادي بحت، من شأنه أن يُضعف قدرة النظام على إطالة أمد المواجهة». لكنه يضيف «لا يتوهّمن أحد بالطبع أن تكون العقوبات الدولية وحدها كفيلة بإسقاط نظام مثل النظام السوري».
بالإضافة إلى الآثار الاقتصادية المباشرة، يعتقد الدكتور بصبوص بأنّ العقوبات الدولية لها مفعول آخر لا يقل أهمية على الصعيد الدبلوماسي والسياسي. ويقول عن هذا الموضوع إن «العقوبات والضغوط الدولية تزيد من عزلة النظام السوري، ونحن نرى هذا يوماً بعد آخر؛ فبعد التطورات التي شهدتها مواقف الدول الخليجية وجامعة الدول العربية، هناك نفاد صبر واضح لدى كل من تركيا وروسيا، كما أن هناك إدانات دولية مختلفة بدأت تولّد شبه إجماع في مجلس الأمن الدولي». ويخلص إلى أن «الحديث عن العقوبات يندرج ضمن منظومة دولية كاملة تضع النظام السوري اليوم في مواجهة حالة من الحصار الدولي الشامل يعزله بنحو شبه تام، بحيث لم يبق له سوى حليفين فقط لا غير، هما إيران وحزب الله».
أما الإعلامي الفرنسي المتخصّص في شؤون الشرق الأوسط، كريستيان مالار، الذي يعرف سوريا عن قرب، وسبق له أن حاور الرئيس السابق حافظ الأسد مرتين، واستضاف الرئيس بشار الأسد، خلال العام الماضي، في برنامجه «بوجه مكشوف» على القناة الثالثة لـ«فرانس تي في»، فيرى أن هذه العزلة التي تسعى المنظومة الدولية إلى فرضها على سوريا سيكون لها «مفعول عكسي وخطير». ويشدّد مالار على أنّ «الحديث الذي يدور بخصوص العقوبات الدولية ضدّ سوريا لا يخلو من النفاق السياسي والدبلوماسي، فالدول الغربية تحاول، بكل الوسائل، ألا تظهر بمظهر من يكيل بمكيالين بعد سابقة التدخل العسكري في ليبيا». واقع يرى مالار أنه يفسر قيام العواصم الغربية بإشهار سلاح العقوبات الدولية، ودفعها دول الخليج إلى تصعيد مواقفها، وربما إلى تجميد استثماراتها في سوريا. ويتابع الصحافي الفرنسي: «باعتقادي، ستكون نتائج هذا التصعيد معاكسة تماماً لما تأمله الدول العربية والغربية، فالمطلوب اليوم من المنظومة الدولية ومن دول الجوار العمل على نزع فتيل الاحتقان حتى لا تتطور الأمور في سوريا نحو حرب أهلية شاملة». ويستدرك قائلاً «أما مثل هذه العقوبات التي تهدف إلى عزل سوريا وحصارها، فإنها ستدفعها أكثر فأكثر نحو الارتماء في أحضان إيران. وذلك ليس في صالح الدول العربية ولا دول الخليج تحديداً».
ويلاحظ مالار أن «هناك خطراً آخر يتمثل في كون العزلة التي يُراد فرضها على سوريا ستؤدي، للأسف، إلى مزيد من الانغلاق من قبل النظام السوري، في حين أن المطلوب هو دفعه إلى الانفتاح والقيام بإصلاحات واسعة». اقتناع يعرب عنه مالار بناءً على «معرفتي الوثيقة بالرئيس بشار الأسد، فحين قابلته قبل نحو عام، تحادثتُ معه طويلاً، ووجدتُ لديه وعياً كاملاً بالتحديات المستقبلية التي تتطلب إصلاحات عميقة في سوريا للتأقلم مع التحوّلات التي يشهدها العالم». وعلى الرغم من الأحداث المؤلمة التي تشهدها سوريا حالياً، لا يزال الصحافي «متمكساً بالأمل في أن يقوم الرئيس السوري بوقف القمع وإطلاق حركة إصلاحية واسعة في بلاده».



الوقت ليس لـ«المناورات المتباطئة»

أكّدت وزارة الخارجية الفرنسية، أمس، أنه لا يمكن السلطات السورية الاستمرار في تجاهل رسالة مجلس الأمن الدولي، داعيةً إيّاها الى تلبية التطلعات الشرعية للشعب السوري. وقالت متحدثة باسم الوزارة، في لقاء مع الصحافيين، إن «السلطات في دمشق لا يمكنها الاستمرار في تجاهل رسالة مجلس الأمن التي ردّدت صداها العديد من دول المنطقة». وأضافت أن هذا الوقت ليس وقت «المناورات المتباطئة»، وأنّه يتعين على السلطات السورية أن تلبي «التطلعات الشرعية للشعب». وشدّدت على أن مجلس الأمن الدولي سيستمر في متابعة الوضع في سوريا عن كثب. كذلك جدّدت دعوة دمشق إلى وقف القمع والعنف في سوريا. وكان مجلس الأمن قد أصدر الأسبوع الماضي بياناً رئاسياً أدان فيه أعمال العنف في سوريا. وقدّم الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون تقريراً حول تطور الوضع السوري إلى مجلس الأمن.
(يو بي آي)