الفصام


يضحك ويركض في الزواريب. ثيابه البالية لا تتغيّر كثيراً. يحمل في جيوبه أقل بكثير ممّا يحمل في فؤاده. عاش أولى سنوات عودته ـــ التي يطلق عليها صفة سنوات اللجوء ـــ في لندن، حيث كان يعمل مستشاراً لإحدى الشركات الكبرى. كلما كانوا يسألونه رأيه في مسألة صعبة، كان يعترف بتعقيد المسألة، ويقول بالعربية «عملية»، وما زال.
في الأردن، وكان طبيباً في غرفة العمليات، كان يروى عنه أنه كان لا ينفك يكرر عبارة «عملية عسكرية»، حين كان يريد أن يجري بعملية جراحية لأحد المرضى، وما زال..
ولكنهم أخبروني أيضاً أنه كان مدرّباً لرياضة الكاراتيه في لبنان، وكان يصف مباريات تلاميذه في البطولات بالمباريات «العسكرية»، وما زال.
سألنا المحلل والمعالج النفسي مراراً عن حالته. فهو يظن حيناً أنه كان مستشاراً وأحياناً مقاولاً، أو أنه كان أستاذاً أو مقاتلاً، حتى يا أختي كان أحياناً أخرى يردد أنه «الرحّال الفاشل»! وما زال.
المعالج ذاك كان «من أقوى المعالجين»، وكان فلسطينياً هو الآخر. وكان يقول لنا في كل مرّة «كنت فلسطينياً قبل أن أكون فتحاوياً، مثلما كنت فلسطينياً قبل أن أكون حمساوياً. الفرق الوحيد هو ما اخترته لكي أظل فلسطينياً. «يا عيني!». حتى المعالج كان مصاباً بانفصام الشخصية! ربما كان يظن نفسه
شاعراً!
ورغم ذلك،كنّا نسأله عن الحل. فيجيبنا كل مرّة بدون أيّ إضافة: «عملية عسكرية موحدة»، وما زال.
خيّتا أنهار ،
هادا المعالج ولا المحلل (مش عارف رتبته بالظبط صراحة) اختفى من كل بقاع الأرض بالخارج، قولتك معقول عايش بالداخل؟
شاهد عيان ـــ مخيم برج البراجنة

■ ■ ■

جنون



عزيزي شاهد ...
في خطوة غير مسبوقة مني، قررت أن أتوقف عن محاولة توجيه الناس حولي إلى ما أراه صحيحاً، وأن أراقبهم في سكونهم وضوضائهم، في محاولة يائسة أخيرة لكي أفهمهم. ظننت أني إذا فهمتهم فسأتواصل معهم بطريقة أفضل، وحينها سأستطيع تغيير ولو بعض ما أراه من المنكرات التي لطالما ظننت أنه يجب عليّ المساعدة في الحدّ منها، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من رأى منكم اعوجاجاً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»، وهكذا لم أعد أقول لهم ما عليهم فعله في المواقف المختلفة، وإن كانت تزعجني، ولا ما يجب أن يأكلوا على الموائد المختلفة أو يقولوا في المناسبات المختلفة، واكتفيت بأن وقفت جانباً أسجّل أدق التفاصيل للقرارات التي يتخذها العقل البشري (ومن ضمن الناس الذين راقبتهم، راقبت نفسي).
وكم صُدمت عندما اكتشفت أن القرارات نفسها لا تكون منطقية في أغلب الأحيان. وإن كانت منطقية، فهي ترتكز على المنطق الذي يتّبعه الإنسان نفسه، والذي يكون في أغلب الأحيان مرتكزاً على أمور غير منطقية. فالمنطق متغيّر غير ثابت، يختلف من إنسان إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر، ومن كوكب إلى آخر!
ماذا رأيت عندما راقبت الناس حولي: بشر عاديون يبكون أنفسهم لأنه لا أحد يتضامن معهم في مآسيهم، لكنهم هم أنفسهم يرفضون مشاركة الآخرين أحزانهم، كما أنهم يريدون تغيير أنفسهم إلى الأفضل، مع أنهم يرفضون تشجيع الآخرين للتغيير نحو الأفضل، ويفضّلون أن يظل الناس حولهم كما عرفوهم دوماً!
وهكذا عندما توقفت عن توجيه الناس حولي، أسرفوا في أكلهم، فجاع أطفال الصومال، وبنوا المباني الشاهقة للأغنياء، فافترش الفقراء المقابر والشوارع والعراء، وصار الشعب في خدمة الحاكم، فعمّ الظلم الأرض، وصارت الثورة فوضى ومؤامرة لضرب الأنظمة الدكتاتورية التي لم ترفع يوماً بندقية في وجه محتل وقد حشدت جيوشها لإخضاع الشعب!!
قد يكون ذاك المعالج هو أحد الذين راقبتهم في الداخل، وربما لا، إلا أني بعد أن اكتفيت من مراقبة الناس حولي، أصابني الجنون، وهمت على وجهي أبكي أطفال فلسطين والصومال والعرب والعجم، وأتضامن مع الثورات كلها، وأدين الظلم أينما كان، فتأكد للناس جنوني ونبذوني، بعدما تنبّأوا لي بالموت بجلطة دماغية، أو في السجن!

أنهار حجازي ــ الجليل