ليبيا حرة من دون العقيد معمر القذافي. يقف رجل ليبي كهل أمام كاميرا أحد التلفزيونات ليقول صباح الثاني والعشرين من آب «هذا أول يوم في حياتي تشرق فيه الشمس منذ 42 عاماً، وليبيا من دون القذافي. كنت أستيقظ كل يوم وأعرف أنه هنا، لكني بعد اليوم لن أفكر فيه، سأنساه كلياً». وأضاف «ربما لن أعيش طويلاً، ولكن أيام حياتي المقبلة ستكون ذات معنى، لأني لن أفكر بعد اليوم وأنا آخذ في حسابي أن هناك من يراقب أفكاري ويتجسّس عليها».شهادة بالغة التأثير. عفوية ولكنها معبّرة. مباشرة لكن عميقة وذات مضامين، لأنها ذهبت إلى القواسم المشتركة بين أبناء بلد ظلوا ينامون ويستيقظون على الخوف. صورة الأخ العقيد ورجاله في كل مكان، وجمهورية «جورج ارويل» في لباس الجماهيرية التي لا سلطة فيها سوى سلطة الجماهير التي تخلت طواعية عن حريتها، وراحت بفرح مرائي تؤدي طقوس الحب والطاعة العمياء للأخ القائد الذي تنازل وزهد في الحكم وصار واحداً من الشعب. لا سلطة له، ولو كان رئيساً لرمى الاستقالة في وجوه الليبيين منذ اليوم الأول لانتفاضة الشعب. الحكم للشعب، ولكن القذافي طمس شخصية شعب لم يعرفه العالم ولم يتعرّف إليه إلا حين بدأت انتفاضة 17 شباط. اكتشف العالم أن ليس كل الليبيين على شاكلة القذافي، وليبيا ليست صحراء وآبار نفط.
يختلف فرح الليبيين عن المشاعر التي عاشها قبلهم التونسيون والمصريون، الذين احتفلوا على التوالي بسقوط زين العابدين بن علي وحسني مبارك. ومن أبرز التمايزات أن الشعبين التونسي والمصري أنجزا التغيير بأقل قدر من الأضرار وفي زمن قياسي، هو أقل من شهر. فالخسائر البشرية والفترة الزمنية التي استغرقها رحيل النظامين في تونس ومصر لا تقاسان بما حصل في ليبيا خلال سبعة أشهر. ورغم شراسة نظام بن علي وسطوة أجهزة مبارك وهيمنتها على حياة المصريين، لا تكاد معاناة الليبيين المديدة تقارن بما عاشه التوانسة والمصريون، ومن هنا يمكن فهم قوة الفرح الليبي، وحتى تلعثمه. وربما لاحظ المراقبون في الحالة الليبية مفارقات لم يشاهدوها في حالتي تونس ومصر، أولاها أن الفرح الليبي بارد إلى حدّ كبير، وحتى الثوار الذين دخلوا طرابلس بعد ظهر الثلاثاء، لم يجيدوا التعبير عن فرحتهم بالقدر ذاته من الحرارة الذي يليق بأهمية الحدث. ولولا تعبير القذافي الفادح عن الخسارة، لما كان يمكن الإحساس بعمق الانتصار الشعبي الليبي.
مرارة القذافي وإصراره على البقاء كانا الوجه الآخر للمرآة الليبية، وأوصلا رسالة ذات مغزى رمزي عميق قدم نفسه في انهيار استراتيجية التحكم والحكم عبر الإكراه والطاعة المفروضة بالقوة. هناك من فسّر ارتباك الليبيين بأنه نابع من أن النصر جاءهم على طبق الحلف الأطلسي، ولكن أغلب الظن أنهم كانوا في ذهول من حجم المفاجأة. فهم لم يكونوا يعتقدون أن لحظة سقوط القذافي ستكون ممكنة. وعدا ذلك فإنهم كادوا ييأسون من هزيمة الطاغية الذي أبدى تشبّثاً بالحكم لا حدود له، وعبّر عن عناد استنفد كل الأسئلة. وذهبت الأسئلة إلى آفاق بعيدة تبحث عن سر عناد العقيد وأبنائه وتشبّثهم المستميت بالسلطة، واتّباعهم استراتيجية كل شيء أو لا شيء. عناد استدعى إعادة الاعتبار على نحو كاريكاتيري إلى كل من الرئيسين التونسي والمصري، وراحت بعض الأوساط على صفحات التواصل الاجتماعي تضفي قدراً كبيراً من الحكمة على سلوك بن علي ومبارك اللذين انحنيا أمام الموجة، وكان في وسعهما أن يظلا حتى يغرقا بلديهما في الدماء. ولأن سيف الإسلام القذافي معروف أكثر من بقية أفراد عائلته، فقد نال النصيب الأكبر من الاستغراب والأسئلة. لماذا تحول هذا الشاب ذو التربية الغربية إلى مقاتل شرس، ومهرج من الطراز الرديء، فيما كان يقدم نفسه زاهداً في خلافة والده، ويشيع عن نفسه أنه سيكون صاحب مشروع ليبيا الجديدة، التعددية الحزبية والحريات الإعلامية والاقتصادية، والانفتاح على المعارضة؟ أسئلة التقت كلها عند جنون السلطة، وما يمكن أن يؤدي إليه من دمار يلحق بالبلد وأهل البلد. كان في وسع سيف الإسلام أن ينشق عن والده ويتبنّى مطالب الناس ويصبح بطلاً ومصلحاً، ويجنّب بلاده الحرب، ولكنه اختار شرعية والده المطعون في مصدرها، وانتهى هارباً ومطارداً، تاركاً خلفه بلاداً تنزف، وتدفع فاتورة كبيرة من استقلالها ومواردها.
الليبيون في قاموس القذافي ونجله سيف الإسلام جرذان وعملاء للحلف للأطلسي، تنعدم فيهم صفات المواطنة والوطنية. هم ولدوا في المجارير، وقرروا أن يتحولوا إلى أدوات لاستدراج الأطلسي إلى أرض بلادهم. معادلة كانت لتستقيم لو أن حكم القذافي كان ممانعاً على الأصول التي تقتضيها الممانعة. لو لم يسلم القذافي أسلحته وبرنامجه النووي، ويعتذر عن تاريخه الأسود والعبثي في الإرهاب ويقدم تعويضات بالمليارات للغربيين مقابل بقائه في الحكم وتنظيف سجله الأسود، لكان من حقه أن يزايد على خصومه الذين استعانوا بالأطلسي للتخلص منه. وزيادة على ذلك، فهو منذ اليوم الأول للحركة الاحتجاجية ضده شرع في تحذير الغرب من خطر خصومه، واصفاً إياهم بالمتطرفين وتنظيم القاعدة، حتى إنه استنجد بإسرائيل من أجل بقائه في السلطة.
حالة القذافي تطرح اليوم سؤالاً كبيراً بشأن الاستنجاد بالأجنبي ومشروعيّته في ظل انعدام ميزان قوى بين شارع يتعرض لقمع بالحديد والنار، وحكام يرفضون إعطاء شعوبهم أبسط حقوقهم، ويعيّرونهم بالعمالة إن هم حاولوا أن يكفوا شرهم عنهم. ويحضر هنا الدرس العراقي الذي لم يستفد منه الحكام العرب. ورغم أن العراق غرق في الدم لعدة سنوات، هناك قطاع واسع من الشارع العربي لا يرى في ما عاشه العراق سوى التخلص من الطاغية. ولم يكن ذلك ممكناً لو لم يقم الأميركيون بالعملية. فالعراقيون لم يوفروا وسيلة إلا جرّبوها للخلاص من صدام حسين، ولم ينجحوا في زحزحة الحاكم الذي أوصلهم خلال عشرين سنة إلى مستوى معيشي أقل من شعب بنغلادش، وكانوا يعيشون قبل وصوله بمستوى الفرنسيين.
الحالة الليبية طرية وحمّالة أوجه، وتطرح أسئلة كثيرة وحافلة بالعبر والدروس. وأول ما يذهب إليه الحدث يعني الليبيين قبل غيرهم. فاليوم تنتظرهم تحديات كثيرة، فهم تحت المجهر، ويُنظر إليهم باهتمام شديد. وأهم ما يمكن التوقف أمامه هو سيادة ليبيا. والخطير في الأمر هو أن الإشارات الأوّلية لا توحي بأن هذه النقطة مطروحة بحدّة من قبل القادة الجدد. صحيح أن الأطلسي لم يضع كل ثقله من أجل إسقاط القذافي خدمة لسواد عيونهم، ولكن الاستسلام لاقتناع بأن إشاعة الديموقراطية هي سبب تدخل الأطلسي سيقود إلى الاحتلال مهما كانت المسميات والمبررات.
معركة ليبيا بدأت اليوم. فرجال الحكم القادمون مجبرون في جميع الأحوال على تسديد فاتورة إسقاط القذافي، الأمر الذي يترك أمامهم هامشاً ضيقاً للمناورة. ولكن عدم التجانس بين أطراف المعارضة وتضارب أجنداتهم يهدّدان بنزاعات داخلية لا حصر لها.
وينتظر الحكام العرب درساً بالغاً بأن يستفيدوا من أخطاء القذافي القاتلة. فالتنازل للشعب، وإجراء الإصلاحات، هما السبيل الوحيد لتجنيب البلاد الكوارث التي حلّت بالعراق، والدمار الذي لحق بليبيا. ويسمح الحدث الليبي باستنتاج مذموم ومرفوض، وهو أن استدعاء التدخل الأجنبي لم يعد من المحرمات، بل ان هذا التدخل حين تقترب ساعته لن يكون في وسع أحد مواجهته، لا الشارع ولا الحكم، فهو يجد اليوم المبررات باسم حماية المدنيين، وليس مصادفة أن الملف الليبي بدأ من مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وها هو الملف السوري يأخذ الطريق نفسه. والجديد في الأمر هو أن الأمم المتحدة تحولت إلى مظلة لشرعنة التدخلات، ولكن ما يقدم المبرر هو القمع ولغة الرصاص التي علت على صوت أي حوار.
ليبيا بلد تحرر من القذافي، ولكن الغد غير الأمس، وما كان حلماً يمكن أن يصبح كابوساً. ومن يظن نفسه من الحكام العرب محصّناً من العارض الليبي فهو على خطأ. فلم يشفع للعقيد، لا تاريخه الإرهابي، ولا الانحناء أمام الضغوط الغربية، فمصلحة بلدان الأطلسي اليوم هي في دخول المنطقة من بوابة الاحتجاجات الداخلية. هي تدرك اليوم أن المهمة أسهل والكلفة أقل من الاحتفاظ بالحلفاء القدامى، ولعل المثال المصري ينفع أكثر من غيره، حيث تكشف برقيات «ويكيليكس» عن نقاش في صفوف الإدارة الأميركية عمره عدة سنوات، وكان يدور حول مخاطر توريث الحكم في مصر، وكان الاستنتاج الأساسي هو أن الجيش هو الذي سيحول دون تولّي جمال مبارك الحكم، وهذا ما حصل فعلاً، ولكن من خلال انتفاضة ميدان التحرير.