منذ بداية المعارك في ليبيا، تحدثت تقارير إعلامية بإسهاب عن دور الاستخبارات الأميركية «سي آي ايه» في مساعدة الثوار الليبيين عبر جمع المعلومات الاستخبارية وتقديم العون اللوجستي. وذكرت أن فريقاً من «سي آي إيه» يعمل في ليبيا ضمن القوات الغربية الى جانب الاستخبارات البريطانية والفرنسية. وأشارت الى أنّ هذ الفريق التقى المعارضين وساعد على لمّ شملهم وراء قادة ميدانيين موحدين لمقاتلة كتائب القذافي، لكن مهمته في جمع المعلومات الاستخبارية كانت شاقة، فالساحة الليبية لم تكن محط اهتمامه خلال السنوات الماضية، ونظام القذافي كان أحد أهم حلفائه في مجال مكافحة الإرهاب، وزوّده بأخطر المعلومات الاستخبارية.
ولم يكن عناصر «سي آي ايه» يحتاجون الى التمرّغ في الأرض الليبية، لكن كل هذا انقلب رأساً على عقب مع اندلاع الاحتجاجات.
نزلت وكالة الاستخبارات الأميركية الى أرض المعركة لمساعدة المعارضين على النيل من القذافي. وسمح الرئيس الأميركي للوكالة بتزويد المعارضين بالسلاح وبكل ما يلزم الأمر من طائرات تجسس أميركية متطورة لتعقب قوات القذافي. وبما أن الولايات المتحدة اختارت أن لا يشارك أميركيون في القتال مباشرة، فإنها أوكلت هذه المهمّات الى «رجالها الليبيين». وتحدثت تقارير عن دور القائد العسكري الجنرال خليفة حفتر، الذي أمضى الـ20 عاماً الأخيرة في ضواحي فيرجينيا وبنى علاقات متينة مع الجماعات المناوئة للقذافي، قبل أن يعود الى ليبيا ليقود القتال ضدّ كتائب القذافي. ووصفه أحد التقارير بأنه «رجل سي آي ايه في ليبيا».
خليفة كان أحد الضباط الرفيعين التابعين لمعمر القذافي، لكنه انقلب عليه في أواخر الثمانينيات. وقاد عدّة مهمّات انقلابية ضدّ العقيد برعاية «سي آي ايه»، منها المهمة التي بدأت منذ أكثر من ربع قرن مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان، الذي حاول فريق ليبي اغتياله في أواخر 1981، عقب توتر العلاقات وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. وبعدها انطلقت لعبة الحرب الأميركية الليبية الطويلة التي انطوت على اعتداءات وتفجيرات واغتيالات ضدّ أهداف أميركية ردّت عليها الولايات المتحدة بالعقوبات والعزلة الدولية وضربات عسكرية (في 1986ردّاً على تفجير الملهى الليلي في برلين) وإيكال وكالة الاستخبارات بمهمة تدبير انقلابات ضدّ العقيد.
وفي منتصف الثمانينيات اتهمت إدارة ريغان و«سي آي ايه» القذافي بدعم المجموعات الإرهابية ومساعدة الجماعات الأصولية في العالم، ووضعت لائحة بدول قالت إن نظام العقيد ينشط داخلها. محاولة تمرّد واجهها النظام الليبي في أيار 1984، عندما هاجم مسلحون قواته بالصواريخ والأسلحة في طرابلس، لكن جرى إجهاض هذا الهجوم وقتل معظم المهاجمين. تبنّت الهجوم جبهة تحرير ليبيا المؤلفة من رجال مناهضين للقذافي في المنفى، بعضهم يوالي ملكية ادريس السنوسي. وتدعم هذه الجبهة الاستخبارات الأميركية، كما تلقى دعم العائلة الحاكمة السعودية التي تحمل حقداً على القذافي، بعدما اتهمها بتدنيس المقدسات الإسلامية، إضافة الى مصر وتونس والسودان.
ورغم فشل الهجوم، أصر مدير «سي آي إيه» في حينه، وليام كاسي، على إسقاط القذافي. ومنذ ذلك الهجوم وُضع عناصر جبهة التحرير على جدول رواتب «سي آي ايه»، التي احتضنتهم ورعتهم ودرّبتهم، بدايةً في تشاد وزائير وكينيا، قبل أن تنقل رجالها مع حفتر الى الولايات المتحدة وتوليهم رعاية خاصة.
وفي أوامر سرّية كشفها الصحافي بوب وودورد، عدّ ريغان جبهة التحرير سلاحاً أساسياً في معركة إسقاط العقيد، ووضع 10 خيارات ضدّ القذافي تراوح بين قلب النظام الى العقوبات الاقتصادية. محاولة جديدة لهزّ نظام العقيد كانت في 1996، بحيث عاد حفتر الى ليبيا ليقود مجموعة من المسلّحين والسجناء الفارين في معركة ضدّ قوات القذافي في جبل الأخضر شرق ليبيا لخمسة أيام. المحاولة التي جرت في عهد بيل كيلنتون فشلت أيضاً.
هذه العداوة التي تكللت بالدم بين «سي آي ايه» والعقيد بدأت بالتحول جذرياً في أواخر التسعينيات؛ ففي 1998 كانت ليبيا أول دولة تصدر مذكرة توقيف بحق زعيم تنظيم «القاعدة» أسامة بن لادن، لتدخل مرحلة جديدة من الانفراج والتعاون مع إطلالة الحرب على الإرهاب التي دشنتها اعتداءات الحادي عشر من أيلول 2001.
فبعد شهر من هذه الاعتداءات التقى مساعد وزير الخارجية وليام برنز مع رئيس الاستخبارات الليبي في حينه، موسى كوسى. وللمفارقة، فإن هذا الشخص هو من سُمي الرأس المدبّر لأهم الهجمات والاغتيالات التي اتُّهم بها النظام الليبي وفي مقدّمتها، لوكربي.
اللقاء الشهير كان بغرض ترتيب التعاون بشأن الحرب على الإرهاب. وزوّد كوسى بعدها «سي آي إيه» بأسماء عناصر الجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة، وسلّمهم ملفات قادة هذه الجماعة الذين يعيشون في بريطانيا، إضافة الى الإسلاميين الليبيين الذين تدربوا في أفغانستان. الوكالة الأميركية قدّرت هذه المعلومات القيمة جداً، نظراً إلى االدور الخطير الذي يؤديه الإسلاميون الليبيون في تنظيم «القاعدة».
وما دفع القذافي الى الحضن الأميركي، كان التمرّد العنيف الذي شنته الجماعة الإسلامية الليبية ضدّه. وبعد لقاء كوسى ـــــ برنز، صنفت الولايات المتحدة الجماعة تنظيماً إرهابياً. وكوسى، الذي تولى لاحقاً وزارة الخارجية، نجح في المرحلة اللاحقة في توثيق التعاون الأميركي الليبي، وقاد المفاوضات مع الأميركيين التي انتهت بنزع ليبيا برنامجها النووي، وعدّته «سي آي ايه» أحد أبرز إنجازاتها في بداية الألفية الثالثة، فإضافة الى تسليم 55 ألف باوند من المعدات النووية، سلمت ليبيا «سي آي ايه» ملفات خطيرة تتضمن أسماء المزودين النوويين في السوق السوداء، والشركات وناقلي هذه المعدات والمواد.
وساعدت هذه المعلومات «سي آي ايه» على تعقب مشتبه فيهم في شبكة السوق السوداء، وإغلاق جزء من هذه الشبكة في ماليزيا والإمارات العربية المتحدة. وبلغ التعاون في مجال مكافحة الإرهاب بين ليبيا والولايات المتحدة حدّاً غير مسبوق، بحيث وصفت إحدى وثائق «ويكيليكس» المسربة حكومة العقيد القذافي بأنها «شريك قوي ضدّ الإرهاب»، وعدّت العلاقات مع الاستخبارات الليبية ممتازة، كما رأى مدير «سي آي ايه» السابق جورج تينيت، في مذكراته عام 2007، أنّ تخفيف التوتر مع ليبيا كان أحد أهم إنجازاته لأنه أفضى الى تعاون استخبارات البلدين ضدّ تنظيم «القاعدة».
وأسهم هذا التعاون في تعقب شبكة «القاعدة» في شمال أفريقيا. وفي خطوة تنم عن تقديرها لتعاون النظام الليبي، سلمت الولايات المتحدة ليبيين مناوئين للقذافي تحت عنوان الحرب على الإرهاب، كما سمحت لعملاء ليبيين بزيارة معتقلين في غوانتنامو والتحقيق معهم. وفي عام 2004، رأت إدارة جورج بوش أن «ليبيا أدارت ظهرها للإرهاب». وزار بعدها مساعد وزيرة الخارجية وليام برنز ومنسق مكافحة الإرهاب جوفر بلاك، ليبيا، حيث التقيا القذافي وأعادا العلاقات الدبلوماسية. ورُفعت بعدها العقوبات عن ليبيا، وكُسرت عزلتها وأُعيد إليها عبد الباسط المقرحي. وليس ببعيد، توصلت «سي آي إيه» الى اتفاق مع استخبارات العقيد على تدريب عناصر ليبيين على مكافحة الإرهاب.
شهر العسل الأميركي الليبي انتهى مع اندلاع الثورة. وقرّرت «سي آي ايه» إنهاء المهمة التي بدأتها منذ عشرات السنين، واضطرت بسبب مصالح آنية إلى أن تُسقطها من أجندتها. يصف مدير الاستخبارات الوطنية السابق، دنيس بلير، هذا الانقلاب على الأنظمة المتعاونة في مجال الإرهاب شأن مصر وليبيا بالقول «صحيح أن الأجهزة الاستخبارية في مصر وليبيا كانت متعاونة في مجال مكافحة الإرهاب، لكنها كانت عدوانية ووحشية في بلدانها». ويضيف «هذه العلاقات الاستخبارية لم تتدخل فقط في قدرتنا على فهم الجماعات المعارضة، بل أيضاً في نظر مواطني هذه البلدان، فإن الولايات المتحدة كانت تُعرف غالباً كأدوات ظالمة»، وأن «الوقت حان كي تكون علاقاتنا الاستخبارية منسجمة مع قيمنا الوطنية»، لكن مسؤولاً استخبارياً آخر يؤكّد، بحسب ما تنقل عنه «نيويورك تايمز»، أنّ «السياسة الخارجية والاستخبارات لا تعرف القيم الأخلاقية»، وما جرى للزعماء العرب الساقطين، أو الآيلين الى السقوط، ليس جديداً على السياسة الأميركية، التي اعتادت رمي حلفائها.