تضاربت الأنباء حول الموقع الفعلي الذي يشغله حالياً العقيد خليفة حفتر داخل القيادة العسكرية للثوار، ولكن هناك تأكيدات على أنه من الذين يقعون في الدائرة الضيقة جداً للقرارين السياسي والعسكري. ورغم أن أوساطاً عسكرية تحدثت عن فشله الميداني في المواجهات مع كتائب القذافي على أكثر من جبهة، وخصوصاً في الشرق، فإنه بقي صاحب سطوة وتأثير، ويرشحه العارفون بكواليس الوضع الليبي لدور أكثر أهمية في المرحلة المقبلة، والسبب الرئيسي الرئيسي هو تزكيته من الولايات المتحدة، حيث عاش قرابة عشرين سنة قبل أن يعود إلى بلاده بعد اندلاع انتفاضة 17 شباط.
حفتر عقيد في الجيش الليبي، وهو أحد أبناء قبيلة الفرجاني التي تعود جذورها إلى بني هلال، وكان من أتباع القذافي الأوفياء. لذا، كلفه قيادة القوات الليبية في تشاد سنة 1986، لكن قواته منيت بهزيمة شنيعة أمام القوات التشادية التي ساندتها فرنسا جواً، ووقع حفتر في الأسر سنة 1987 في شريط أوزو مع عدة مئات من العسكريين الليبيين. واتهمته أوساط القذافي بالخيانة والتخلي عن الجيش في الصحراء وترك جنوده يقعون في الأسر.
وبقي حفتر وجنوده في الأسر لفترة طويلة، وبعد ذلك أُفرج عن بعضهم ليعودوا إلى بلادهم، بينما انضم قسم آخر إلى حفتر الذي تحالف مع الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا، وأسّس جناحها العسكري، «جيش التحرير الوطني»، سنة 1988، ونُقل الجميع سنة 1990 إلى زائير ومن ثم إلى الولايات المتحدة، وأُقيمت لهم معسكرات تدريب في ولاية فرجينيا، وذلك بعد هزيمة حسين حبري في تشاد ووصول خصمه إدريس ديبي إلى السلطة.
وفي 14 آذار الماضي، عاد خليفة حفتر إلى بنغازي آتياً من مصر، وتولى قيادة جيش الثوار الذي كان بحاجة إلى قائد ميداني، وتؤكد روايات عديدة أن حفتر لم يستطع تحمل عبء القيادة أو لم يكن مناسباً من الناحية الميدانية، وقدم معلومات غير دقيقة عن سير المعارك، وهناك من يحمّله مسؤولية الهزائم التي منيت بها قوات المعارضة أمام كتائب القذافي، حيث خسر الثوار بضعة معارك على الجبهة الشرقية، ومنذ أن دخل الأطلسي المعركة بقوة انسحب خليفة حفتر من الأضواء. واستُبدل هو وفريقه بعدد آخر من الضباط والعسكريين الذين انشقوا عن النظام، وأُعيد تعيين بعض العسكريين الذين تقاعدوا من الجيش منذ فترات بسبب رفضهم للعمل مع القذافي. وانيطت مهمة القيادة كاملة بأحد خصوم حفتر، اللواء عبد الفتاح يونس، الذي اغتيل في نهاية تموز الماضي وهو في طريقه ليمثل أمام لجنة التحقيق بعد اتهامه بإجراء اتصالات سرية مع القذافي.
وتفيد أوساط ليبية مطلعة بأن مستقبل حفتر لم ينته عند فشله العسكري، ومن المرجح أنه سيؤدي دوراً بارزاً في المرحلة المقبلة، والسبب في ذلك أن الولايات المتحدة تصر على تصعيد قيادات عسكرية محسوبة عليها، بعدما سرت معلومات عن حضور قوي للأطراف الإسلامية في تركيبة القوى المقاتلة على الأرض، ومن شأن إسناد الدور إلى حفتر أن يعيد ترتيب الجيش الليبي القديم لخلق توازن والحد من نفوذ وسطوة المجموعات السلفية التي طفت على السطح في معركة طرابلس. وهناك معلومات متداولة في أوساط ليبية تذهب أبعد من ذلك لتسند إلى حفتر دوراً سياسياً مهماً في المرحلة المقبلة، كمنصب رئيس حكومة المرحلة الانتقالية. وتقول أوساط ليبية إن هناك ضغوطاً على الأطراف الليبية من أجل للقبول بدور أساسي لحفتر، لأنه يمثّل ضمانة سياسية للولايات المتحدة. فمن جهة، لا شكوك في ولائه، ومن جهة أخرى يستطيع لم شمل الجيش السابق، الذي يُعوَّل عليه في مرحلة أولى لإنهاء فوضى المجموعات المسلحة، وللحيلولة دون اضطرار الأطلسي إلى إرسال قوات للقيام بمهمات تنظيف الجيوب الموالية للقذافي.
ورغم ذلك، طريق حفتر ليست معبدة بالزهور؛ فخصومه يرسمون له صورة قاتمة، وهناك من يؤكد أن نقطة ضعفه تكمن في أنه كان متعاوناً مع الاستخبارات الاميركية قبل أن يقع في الأسر في تشاد، ويقول هؤلاء إن قصة الأسر كانت مسرحية مرتبة بينه وبين الأجهزة الأميركية لتوجيه ضربة للقذافي، ويبرهنون على ذلك بالسلوك الأميركي تجاه قائد عسكري ليبي كبير، كان يعد من المقربين من القذافي، ويقولون إنه لو لم يكن على صلة متينة بالولايات المتحدة لما نُقل هو وجزء من قواته إلى الأراضي الأميركية، بعد عامين من تفجيرات لوكربي، ثم يستقر ويعيش على بعد 5 أميال من مقر الـ«سي آي إيه» في «لانجلي» لسنوات طويلة. وتتقاطع معلومات خصوم حفتر مع تقارير أميركية تتحدث عن صلاته مع الاستخبارات الأميركية، ويجزم بعض التقارير بأن حفتر جرى التعاطي معه هو ورفاقه من جيش التحرير الذي أسسه مثلما جرى التعامل مع مجموعات «الكونتراس» التي دربتها أميركا لإسقاط الحكم السانديني في نيكاراغوا، وأن الرئيس الأميركي الأسبق رونالد ريغان كان قد أخذ على عاتقه إسقاط حكم القذافي، ولهذا أوعز إلى الطائرات الأميركية بقصف مقره في باب العزيزية في نيسان سنة 1986 بهدف قتله، ولكنه نجا، لأنه تخفى في مكان آخر.
في كانون الأول 1996، صدر تقرير لوحدة الأبحاث التابعة للكونغرس يسمي حفتر قائداً للجناح العسكري لجبهة التحرير. وقال إنه بعدما انضم إلى المجموعات المعارضة بالمنفى «بدأ بإعداد جيش ليقاتل في ليبيا». وأضاف أن جبهة التحرير والعديد من عناصرها موجودون في الولايات المتحدة.
ويشير تقرير لصحيفة «نيويورك تايمز» صادر في أيار 1991 إلى الرعاية التي حظي بها حفتر ورجاله من قبل «سي آي إيه». ويقول إن الوكالة كانت تدربهم قرب قاعدة في العاصمة التشادية نجامينا. وقال إن القذافي طالب حكومة تشاد الجديدة (إدريس ديبي) بتسليم حفتر ورجاله بعد سقوط نظام حبري في تشاد، ولكنها رفضت وسمحت للأميركيين بنقلهم إلى زائير. وهناك وافق نحو نصف رجال حفتر على العودة إلى ليبيا، فيما رفض الباقون الذين نقلوا إلى كينيا قبل أن يستقروا في أميركا، حيث انضووا في إطار برنامج اللجوء الأميركي وبينهم حفتر، وقدمت لهم تدريبات ومساعدات طبية ومالية. ووزع رجال حفتر على الولايات الخمسين في أميركا.



«استغلال الأفارقة»

في كتاب صدر عن صحيفة «لوموند دبلوماتيك» الفرنسة سنة 2001 بعنوان «استغلال الأفارقة»، تتبع المؤلف العلاقة بين حفتر (الصورة) و «سي آي إيه» إلى عام 1987، ذاكراً أن حفتر اعتقل وهو يقاتل في تشاد ضمن تمرد مدعوم من ليبيا على حكومة حسين حبري المدعومة أميركياً. ثم هرب إلى معسكر لجبهة الإنقاذ الوطني الليبية وهي جماعة المعارضة الرئيسية للقذافي، المدعومة من الـ«سي آي إيه»، وقد نظم حفتر ميليشيا خاصة به عملت في تشاد حتى أُطيح حبري من قبل منافسه المدعوم فرنسياً إدريس ديبي في 1990.
وحسب الكتاب، فإن قوة حفتر التي خلقتها الـ«سي آي إيه» ومولتها في تشاد، اختفت فجأة بمساعدة «سي آي إيه» بعد قليل من إطاحة الحكومة بواسطة إدريس ديبي، ويشير الكتاب إلى تقرير بحثي صادر عن الكونغرس في 19 كانون الأول 1996، وفيه أن الحكومة الأميركية كانت تمول جبهة الإنقاذ الوطني الليبية وتدربها، وأن عدداً من أعضائها أُعيد إسكانهم في الولايات المتحدة.