اختلطت الأوراق، وتهاوت القلاع، ولم يعد الزعيم الليبي المخلوع معمّر القذافي ذلك الرجل القوي الذي مكث على قمّة حكم طرابلس لأكثر من أربعين عاماً، بل صار مطارداً، شريداً، يبحث عن منفذ للخروج، حتى يواصل الدفاع عن عرش لم يستطع حمايته، رغم ما توافر له من عوامل القوة كلّها. فطرابلس، التي حكمها وكيّفها على مزاجه، وعجنها حسب أهوائه، تطلب رأسه اليوم بأي ثمن، وإن لم تكن كلّها، فإن له فيها أعداء كثيرين، ليس رأسه بأقل أمانيهم.وطرابلس، التي يعرفها القذافي «زنقة زنقة، حوش حوش، فرد فرد» ربّما، ليست عاجزة عن حمايته، ولا هي كلّها ضدّه أو تناصبه العداء، فله فيها أنصار ورجال قد يدافعون عنه ويحمونه بصدورهم وأرواحهم إن لزم الأمر.
يعتمد القذافي في طرابلس على ثلاثة أحياء رئيسية، كلها قديمة وشاسعة وسكانها من الوافدين، وهي حي بوسليم الذي يقطنه التراهنة، وحي الهضبة الذي يقطنه الورفلّية، وحيّ بن غشّير على طريق المطار، الذي تقطنه غالبية من القذاذفة والمقارحة. وبالإضافة إلى هذه الأحياء الكبيرة، تحتوي طرابلس على عشرات الأحياء الصغرى والمجمعات السكنية الموالية للعقيد، كمجمعات الإسكان العسكري، ودوائر إسكان الشرطة، ومناطق الضيافة التي كانت تُمنح سكناً لبعض الموالين من الوافدين، وخصوصاً من أقاصي الجنوب ومن قبائل الصحراء والجبل الغربي، إضافة إلى مناطق سكن بعض الأمازيغ المنحدرين من زوارة أو من بعض مناطق الجبل، الذين لا يزالون على ولائهم للقذافي، رغم العديد من الإغراءات وإثارة النعرات التي تحاول التأثير فيهم للانضمام إلى الثوار.
هذه الأحياء المتشابكة والممتدة الأطراف، قادرة على توفير الحماية للقذافي، رغم ما يحدق به من مخاطر، وخصوصاً بعد انفلات عقد الدائرة الأمنية التي كانت تحيط به، وما تسرّب عن خيانات داخلها أدّت إلى سقوط طرابلس بتلك الطريقة السريعة والغريبة. لكن الأهم بالنسبة إلى القذافي المطارد حالياً، ليست طرابلس ولا أحياؤها، بقدر ما هو الطريق الصحراوي، الذي خبره القذافي لعقود ويعرفه جيداً، وله فيه ولاءات عديدة وصداقات متينة.
ويمتد طريق الفرار جنوباً، خروجاً من طرابلس باتجاه بن وليد، حيث موطن قبيلة ورفلّة القوية والمنيعة والموالية إلى حد الساعة للعقيد. إثر ذلك، يمكن أن يتجه إلى بعض المدن القريبة منها، والقادرة على إنفاذه نحو الصحراء، كترهونة وغريان ومنها إلى سهل جفارة وحاضرته زويلة، التي تقدر بدورها على النفاذ به إلى سبها، حصنه الحصين، ومركز قوته، ومواطن أهله وأصهاره وأقاربه.
من سبها تكثر الخيارات أمام القذافي للاختباء، وكلها تتجه نحو الجنوب، إلى عمق الصحراء، ما عدا إذا اختار الطريق الثالث، وهو المستبعد جداً، أي التوجه إلى الجزائر عبر غدامس، وهو خيار من غير المرجّح أن يلجأ إليه العقيد، باعتبار ما سيحفّ به من مخاطر أمنية وإحراجات سياسية لدولة طالما كانت لها حساباتها التي قد لا تتوافق في بعض مفاصلها مع أماني العودة لدى العقيد.
وهناك طريقان رئيسيان نحو الجنوب، لن يسلك القذافي غيرهما إذا قرّر التوهان في الصحراء ومواصلة الدفاع عن حكمه. الطريق الأولى تتجه من سبها في اتجاه الجنوب الشرقي، إلى الكفرة والقطرون وهون، حيث قبائل التّبو الموالية له، والقادرة على حمايته، وتوفير سبل إيصاله أيضاً إلى أصدقائه قبائل المحاميد في دارفور والرزيقات في التشاد، حيث يستطيع أن يختفي في الصحراء الكبرى لعشرات السنين.
الطريق الثانية، وتتجه من سبها باتجاه جنوب غرب، أي نحو غات ومُرزق وجانيت، حيث حلفاؤه الأبديون، قبائل الطوارق، ومنهم صديقه ومرافقه الشخصي العقيد حمّاد، آمر الاستخبارات العسكرية، الذين سيوفرون له بلا شكّ المأوى والأمان. وإذا ضاقت من حوله السبل، فإنهم، وهم الخبراء الأبديون بمسالك الصحراء، يقدرون على إيصاله بسهولة إلى برّ الأمان في أغاديس، حاضرة سلطة الآيير في شمال النيجر، التي يرأس تحالف قبائل الطوارق فيها، صديق القذافي الشخصي السلطان محمد باجن، الذي يقيم تقريباً باستمرار ضيفاً لدى القذافي، وسبق أن توّجه سلطاناً للصحراء، و«أمغار» لكل الطوارق في سنة 2008.
كل هذه الاحتمالات لا تخفي احتمالات لا تقلّ أهمية عنها، وخصوصاً إذا ما تقرّر، طبقاً لحجم ما يحمله من ثروة وسلاح، أن يدخل في تحالف مع تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، الذي يُعدّ رقماً صعباً في معادلة الصحراء الكبرى، إضافة إلى ما توفّره قوافل التجارة والقبائل المتنقّلة، وتجّار التهريب والمخدرات والسلاح، من ملاجئ آمنة قادرة على إيواء القذافي وحمايته لعقود طويلة إن أراد.