كان واضحاً أن الموقف التركي في حالة ارتباك حيال الوضع السوري برمته، والموقف من نظام الرئيس بشار الأسد خصوصاً؛ فقد ضغطت أنقرة في البداية من أجل إصلاحات «عميقة»، وطرحت على دمشق تطبيق جملة من المقترحات قبيل اندلاع الانتفاضة السورية من شأنها تحقيق التعددية السياسية والانتقال إلى دولة ديموقراطية من دون أن تجد آذاناً صاغية في دمشق. لكنّ تصاعد الضغط الأوروبي والأميركي، والميل إلى اتخاذ قرار في مجلس الأمن بحق نظام الأسد، قد يتضمن تدخلاً عسكرياً، فرض على تركيا تصعيد لهجتها لتصل إلى مرتبة التهديد، وهو ما لاقى ترحيباً من بعض المتظاهرين السوريين.
خطوة تلاها تلويح من رجب طيب أردوغان باحتمال أن تعمل حكومته مع «المجتمع الدولي» في الشأن السوري، قبل أن يخفت الصوت التركي ويصمت. غير أنّ النبرة التركية العالية عادت لتتصاعد من جديد بعدما استأنفت الولايات المتحدة وأوروبا تشدُّدهما إزاء السلطات السورية، وهو ما تزامن مع زيارة رئيس الدبلوماسية التركية أحمد داوود أوغلو لدمشق، وخرج من لقاءاته فيها بما يوحي أن حكومته قد أعطت مهلة أسبوعين للسلطة السورية لكي تحقق الإصلاح الموعود. وإذا كان هذا الموقف قد أثار غضب المتظاهرين على اعتبار أنه «لعب بالدم السوري»، فإنّ الدعوة التي أطلقها الرئيس الأميركي باراك أوباما لتنحي الأسد لم تلقَ بدورها قبولاً تركياً.
من هنا يُطرح السؤال: ماذا تريد الحكومة التركية؟ هل هي مع تغيير السلطة في سوريا أم مع بقائها؟
مَن فهم طبيعة العلاقة التي نشأت بين الحكومة التركية ونظام الأسد، وخصوصاً بعد عام 2008، يمكنه التأكيد أن تركيا تميل إلى استمرار السلطة السورية، لا تغييرها، وأن توترها العالي نشأ عن أن هذه السلطة لم تتفهم الوضع الذي هي فيه، والذي يفرض تغييراً «حقيقياً» في بنيتها يسمح بمشاركة قوى معارضة، وخصوصاً من «الإخوان المسلمين»، بعدما قامت الحكومة التركية بدور وسيط منذ أكثر من سنتين لتحقيق مصالحة مع النظام بهدف إشراك «الإخوان» في السلطة. ويمكن الإشارة إلى أن هذا التوتر التركي إزاء الملف السوري يعود للظهور كلّما تجدد الكلام على احتمالات تدخُّل «دولي» في سوريا، هو نتيجة شعور أنقرة بأن كل تدخل دولي يمكن أن يفقدها مكاسبها التي تحققت خلال السنوات الأخيرة. وبالتالي، فإنّ نغمة موقفها ترتبط بمدى استجابة السلطة السورية لدعوتها إلى تحقيق الإصلاح كما تراه هي، لا كما رسمه حكام دمشق. بالتالي، يلاحظ المراقب أنه كلما غضّ «المجتمع الدولي» من نظره إزاء الحدث السوري، تراجعت تركيا عن نغمة نقدها، وكلما تصاعد الضغط وأصبح الميل إلى التدخل قائماً، رفعت من هذه النغمة. هكذا يمكن فهم التصريح الأخير للرئيس التركي عبد الله غول، أمس، ومفاده أنّ تركيا «فقدت ثقتها بالإدارة السورية»، مذكراً بأن بلاده «بذلت جهوداً كبيرة وقدمت مساهمات في سوريا، ودعمت الشعب السوري؛ لأن الشعب هو الأهم». وفيما قال غول إنه يتابع التطورات في سوريا يومياً، وإنه يتلقّى تقارير استخبارية عمّا يحصل في كل مدينة سورية، أوضح أنه «بصراحة، فقدت تركيا ثقتها بالقيادة السورية».
وفي سياق النبرة النارية إزاء دمشق، نقلت وكالة الأناضول التركية الحكومية عن الرئيس عبد الله غول إشارته إلى أن «الوضع بلغ مرحلة باتت التغييرات عندها غير كافية وفات أوانها». وتابع قائلاً: «يُقال إن الأحداث انتهت، ثم يقتل 17 آخرون. كم سيكون العدد (القتلى) اليوم؟ من الواضح أننا بلغنا نقطة سيكون معها أي شيء غير كافٍ وفات أوانه. لقد فقدنا الثقة».
بتعبير آخر، تريد الحكومة التركية أن تبقى هي الماسكة الأولى دون سواها بالوضع السوري، ولا تريد إخلاء الساحة لأي طرف آخر، ولا حتى للولايات المتحدة، ذلك أن سوريا بالنسبة إلى أنقرة، وإلى البورجوازية التركية بالدرجة الأولى، هي كنز لا يجوز التفريط به.
لقد نُظر لتركيا طويلاً كمخلب أميركي في المنطقة، وكحليف للدولة الصهيونية كذلك. وكان ذلك صحيحاً لعقود طويلة، لكن لا يمكن اليوم قول الأمر نفسه، ليس لأن أنقرة انقلبت ضد واشنطن، لكن لأن الأزمة المالية العالمية قد أسست لوضع جديد فرض على البورجوازية التركية إعادة بناء أولوياتها، بعدما ظلت لعقود ملحقة برأس المال الإمبريالي، وعملت طويلاً لكي تصبح جزءاً من أوروبا التي ظلّت أضيق من أن تتسع لها. هذا الوضع هو الذي فرض التحوّل في مزاج الشعب التركي نحو «الشرق» من خلال انتخاب حزب «العدالة والتنمية».
هذا الوضع دفع بتركيا إلى أن تكون على اختلاف مع السياسة الأميركية ومع السياسة الإسرائيلية. وانطلاقاً من ذلك، أصبحت سوريا سوقاً وبوابة مهمين جداً في إطار هذه الاستراتيجيا الجديدة، وخصوصاً أن النظام في دمشق يتعرض لحصار أميركي وضعه في «محور» آخر بالتحالف مع إيران. هكذا كان ممكناً «القفز» لتحقيق «تحالف استراتيجي» يوفر ظرفاً مناسباً لسيطرة اقتصادية تركية في كل الشرق، بعدما باتت السلطة السورية في وضع يجعلها تندفع بتسرُّع لقبول هذا التحالف كي تفك الحصار المفروض عليها، وتوازن تحالفها الإيراني أو تعززه، تحديداً لأن تركيا أيضاً كانت تميل إلى التحالف مع إيران.
لقد حصلت البورجوازية التركية على اتفاقات اقتصادية مهمة من السوريين، وتعزَّز وضع سوريا ممراً للسلع التركية الذاهبة إلى الأردن ولبنان، وخصوصاً السعودية والخليج، وهو ما أدّى، من ضمن جملة تداعيات، إلى تعزيز انهيار الصناعات النسيجية والزراعة السوريتين. جميعها عناصر جعلت من تركيا معنية بالوضع الداخلي السوري، وباستقرار النظام فيه. ويبدو واضحاً أن تركيا تريد من السلطة السورية أن تغيّر، لكن لا تريد تغييرها، وهي تلاحظ أن دمشق لا تعي عمق المشكلات، وبالتالي لا تزال تطرح حلولاً شكلية لها، وهو ما يمثّل خطراً على استمرار السلطة وربما يفضي إلى تغيير يُخرج تركيا من المعادلة.
خلاصة القول أنّ ما يهم الحكومة التركية هو استمرار السلطة القائمة، مع تعديلها بما يسمح بتحقيق «دولة تعددية»، انطلاقاً من تفاهم مع جماعة الإخوان المسلمين تحت إشرافها، حتى إن أنقرة قد تسعى إلى توافق مع إيران على الوصول إلى ذلك بعدما أصبح واضحاً أنه ليس من الممكن قمع الانتفاضة، وخصوصاً أن الإيرانيين بدأوا يشعرون بخطورة الوضع في سوريا.