جدار الصمت الرسمي الذي حاولت إسرائيل اعتماده تجاه الأحداث في سوريا لم يستطع أن يدوم طويلاً، إذ ما لبث أن انكسر ليصدر العديد من التصريحات الدالة من قبل المسؤولين الإسرائيليين، وخاصة ما جاء على لسان وزير الأمن إيهود باراك، في مناسبات عدة، ومن بينها تصريح واضح الدلالة في التعبير عن التقدير والموقف الرسميين لإسرائيل حيال أزمة سوريا ومآلاتها، إذ أعرب باراك عن اعتقاده بأن «نهاية (الرئيس السوري بشار) الأسد ستكون مماثلة لنهاية (الزعيم الليبي المخلوع معمر) القذافي»، لافتاً إلى أن «تركيا تطلق تحذيرات واضحة بهذا الشأن للنظام في سوريا، في موازاة إقدام دول عربية على سحب سفرائها من دمشق».
وأكد باراك أن «نظام بشار الأسد لن يصمد في وجه حركة الاحتجاجات الداخلية، ولا سيما بعدما فقد دعم الولايات المتحدة وأوروبا وتركيا». وبحسب باراك، فإن «سقوط نظام الأسد يمثّل ضربة قاسية لمحور إيران وحزب الله وحماس». أما لجهة الهواجس المسوقة في إسرائيل حيال اليوم الذي يلي سقوط الأسد، فلفت باراك إلى أن الوضع في سوريا على خلاف الوضع المصري، إذ «هناك إمكانات ضئيلة في أن يسيطر الإخوان المسلمون على السلطة». وفي حديث باراك جملة من الدلالات، نظراً إلى كونه وزيراً للأمن الإسرائيلي، ويحوز موقعاً كبيراً ومؤثراً في الحكومة الإسرائيلية، سواء لجهة مكانته الشخصية المؤثرة والفاعلة في قرارات تل أبيب ومواقفها، أو لجهة علاقاته الخاصة والوطيدة برئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، خاصةً أن الناطق بلسان نتنياهو نفسه أيّد مواقف باراك بالقول «في إسرائيل لا يأسفون على رحيل الأسد، بل يرون في ذلك خدمة للسلام والاستقرار في المنطقة، فضلاً عن أنه يوجّه ضربة قاسية إلى حلفاء سوريا الإقليميين، وهم بالطبع حماس وحزب الله وإيران، وأيضاً نجاحاً كبيراً لمعسكر السلام والاعتدال في الشرق الأوسط». من هنا، فإن كلام باراك يعبّر بوضوح ومباشرة عن أن الموقف الإسرائيلي الرسمي الحالي يعتبر إسقاط النظام في سوريا مصلحة إسرائيلية. وعلى خلاف تقارير و«دراسات» صدرت في العالم العربي وجرى توظيفها في التحريض على سوريا، يُفهم من حديث باراك أن إسرائيل الرسمية ترى في إسقاط الأسد إسقاطاً لحلقة أساسية في «محور الشر»، الممتد من طهران وصولاً الى لبنان وغزة، إما باتجاه إسقاط المحور نفسه، أو بإضعافه كثيراً، تمهيداً لإسقاطه واحتوائه.
بناءً على حديث باراك، الذي تكرر في أكثر من مناسبة في الفترة الأخيرة، يبدو أن المسؤولين الإسرائيليين قد غادروا منطقة التردّد إزاء الموقف من مساعي إسقاط النظام، من دون أن يعني ذلك تجاهلاً إسرائيلياً للتهديدات الكامنة في اليوم الذي يلي.
وبطبيعة الحال، لم يكن الموقف ليصدر، وبشكل علني وواضح ومباشر، من دون أن تسبقه نقاشات وتقديرات وازنت ما بين الفرص والتهديد، خلصت إلى أن مصلحة إسرائيل في إسقاط النظام أو إضعافه إلى حد كبير.

يأس إسرائيلي من الأسد

لا جدال في أن الدعم السوري لحزب الله في لبنان ولفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة قد تجاوز من منظور إسرائيلي كل الخطوط الحمراء، وخاصة أن مستوى القدرات العسكرية لدى المقاومين بات غير مسبوق، ويمثّل ضغطاً وعاملاً رادعاً لإسرائيل عن شنّ اعتداءات واسعة أو محدودة، الأمر الذي يسلب تل أبيب إمكانات فرض إرادتها السياسية في المنطقة، كما اعتادت في الماضي.
ويظهر أن المؤسسة الإسرائيلية قد يئست بالفعل من إمكان تحقيق تسوية سياسية مع سوريا، تكسر بموجبها دمشق تحالفها مع إيران وحزب الله والفصائل المقاومة في فلسطين، الأمر الذي يُمكِّنها من محاصرة حزب الله في لبنان، ومن ثم إضعافه، تمهيداً لاجتثاث تهديده، مع ما يعنيه ذلك من أن الغلبة باتت لنظرية رئيس الموساد الإسرائيلي السابق، مائير داغان، القائمة على أن الرئيس السوري يناور في ما يتعلق بمفاوضات التسوية، وأن كل ما يريده (الأسد) هو «إبقاء جذوة الصراع قائمة مع إسرائيل».
وبحسب داغان، فإن حديث الرئيس السوري عن استعداده لإجراء تسوية مع إسرائيل، متأتّ فقط من أنه لا يستطيع، لأسباب وظروف دولية وإقليمية، المجاهرة بنقيض ذلك، علماً بأن الاستخبارات العسكرية كانت تتمسك برأي مضاد، إذ ترى أن الأسد يريد التوصل الى تسوية مع إسرائيل، لكن مع ثمن ملائم يضمن له الاستمرار في الحكم، والتشديد، من ناحية الاستخبارات، على أن الفرصة باتت تضيق زمنياً، إذ إن الأسد يتجه شيئاً فشيئاً إلى الذوبان نهائياً في محور الشر، بقيادة طهران.

على ماذا تراهن إسرائيل؟

دأب باراك وعدد آخر من المسؤولين الإسرائيليين على تحديد مدة زمنية محددة لسقوط الأسد لا تتعدى أشهراً، قبل أن يغفل الحديث الإسرائيلي في الآونة الأخيرة التوقيت، ويتحدث عن «السقوط في نهاية المطاف»، مهما كانت المدة الزمنية فاصلة. وتنطلق الرؤية الإسرائيلية تحديداً من واقع استمرار الاحتجاجات في الداخل السوري، وتردّي الأوضاع الاقتصادية، وإمكان حصول انشقاقات في الأجهزة الأمنية والجيش السوري.
ولم يغفل باراك العامل الخارجي، إذ حدّد أن سوريا غير قادرة على الصمود أمام تركيا والولايات المتحدة وأوروبا، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن علم إسرائيلي مسبق بمسارات ضغط غربية، مغايرة لتلك المفعّلة حالياً من قبل الغرب وتركيا، خُطط لها في الخفاء لإسقاط النظام في سوريا، بانتظار تنفيذها عملياً.



السلفيّون والفوضى

في مراحل سابقة، كانت الفوضى والبدائل السلفية ضمن المبررات التي وقفت على خلفية معارضة عدد من المسؤولين الإسرائيليين لخيار إسقاط النظام السوري. ومن هنا تأتي أهمية حديث إيهود باراك (الصورة)، الذي لا يمكن اعتباره إلّا كاشفاً عن التقديرات والمخططات المسوقة لسوريا، في أن الاحتمال ضئيل في أن يتسلّم الإخوان المسلمون مقاليد السلطة في دمشق. لكن ما لم يتطرق إليه باراك هو إمكان أن تسود الفوضى سوريا، في اليوم الذي يلي سقوط النظام، وهي فوضى ستكون موجودة أيضاً مع فرضية إضعاف النظام لا إسقاطه، بمعنى عدم وجود سلطة مركزية قوية في دمشق، الأمر الذي يعني تداعيات خطيرة على الكيان الإسرائيلي. وإمكانات تحقق الفوضى، أو شبه الفوضى، نؤدي الى إسقاط كل التبريرات الإسرائيلية التي تحدث عنها باراك، وهو السيناريو الأسوأ بالنسبة إلى إسرائيل. على أي حال، مواقف باراك المؤيّدة لإسقاط النظام في سوريا تمثّل معطى يسهم في فهم أوضح وأدق لحقيقة الموقف والتوجهات الأميركية حيال سوريا، بمعنى أن «المحظور الإسرائيلي» حيال إسقاط النظام لم يعد قائماً، بل على النقيض من ذلك، بات دافعاً للإدارة الأميركية، إن كانت تجد مصلحتها في إسقاط النظام في سوريا.