إيه في أمل
جرّبت اتذكّر وينتا آخر مرة كُنت بغزّة، بصراحة مش متذكرة كان من زمان كثير، قبل الانتفاضة !
بس بذكر إني حبيتها، رحت مع امي لهناك، طلعنا من أم الفحم ع غزة، مرقنا عن حاجز كانت هاي أول مرة بشوف هيك إشي، سألت: يمّا شو هاد؟ قالتلي: هاد حاجز لازم نمرقه عشان نوصل غزة!
مفهمتش ليش، بس سكتت!
كنت صغيرة يومها وشفت غزة كأنها بلد تاني: شوارع غير، الناس بيشبهونا، حكيهم بختلف بس بشبهونا. وصلنا على الشط في غزة، وقعدنا هناك. وبوقتها، سرقت عن شط غزة صَدَفة لساتها عندي ع رف مكتبتي لليوم!
هاي ذاكرتي الأولى من غزة

■ ■ ■


ريهام لازم إحكيلك شوي إيش يعني إنك تكوني فلسطينية ساكنة داخل ما يُسمّى «إسرائيل». هاد إشي كثير غريب وصعب. أنا تربّيت وكبرت وبعرف إنو أنا فلسطينية من «هوشّة» قضاء حيفا، وحالياً ساكنة أنا وعيلتي بأم الفحم لحين التحرير إن شاء الكريم. بس بالمقابل انجبرت إتعلم عبري، وعلى مدرستي كان معلّق علم «إسرائيل». لما بدي إركب الباص بحكي عبري. لما قررت إتعلم أدب عربي وحضارة إسلامية بالجامعة، اكتشفت إنو بتعلمها كمان بالعبري. اللافتات ببلدي بالعبري. وكثير مرات الإشي بخليكي تحسّي بغربة، كأنو حيفا البلد اللي اتعلمت فيها 6 سنين من حياتك وقضيت وقتك ع شواطئها وزقاقاتها هي بلد مش إلك، بلد نسي إنو بحكي عربي .. بتضل بقايا للبيوت القديمة والكنايس والمساجد هي الإشي الوحيد اللي بذكرك إنو هاي بلدك ... هيك أجواء بتشعرك إنك ضعيفة، كأنك الفلسطيني الوحيد على وجه الكرة الأرضية! ومنشان هيك بتكبري وجوّاتك وجع فلسطيني مخيف، بتصير التفاصيل عن كل بلد تهجّر بتهمّك: الإحصائيات وأسامي الشهداء. بتصير تواريخ نكباتنا ونكساتنا أهم من تاريخ ميلادك أو ميلاد المسيح حتى أو هجرة النبي محمد!
وكبرت واتعلمت بالجامعة في تل أبيب ــــ وكر الإرهاب الصهيوني ــــ زي ما كنت أحب أسمّيها دايماً .. كل إشي مختلف، عادات مختلفة، تصرفات، طريقة اللبس، اللغة.. كل إشي كان جديد عليّ !!
ومع هيك كنت إتذكر دايماً جملة ستّي: ارفعي راسنا يا حبيبتي بالشهادة. اليهود ما خلولناش لا أرض ولا أملاك ولا إشي. إنتو اللي ظلّيتوا ... ديري بالك ع حالك وارفعي راسنا.
قررت إتعلم علوم سياسية، وطبعاً كان قراري خاطئ .. وبنفس السنة اللي بلّشت فيها إتعلم علوم سياسية، بلّشت الحرب على غزّة. قاطعت التعليم أسبوعين لأنو مكنتش إقدر أشوف ولا إشي أو حدا بيحكي عبري. مش قادرة إتحكّم بردود فعلي .. بالآخر قررت إنو أنا أقوى من هيك، وحضرت محاضرة، وللصدفة السعيدة المحاضر كان يشرح عن المنظمات الإرهابية اللي شمل فيها (حماس، حزب الله، القاعدة ...) وأنا ما قدرت إسكت وقررت أحكيله ــــ «والجيش الإسرائيلي كمان». فقالي «لا، هاد جيش منظّم تابع لدولة إلها سيادة ..». حاولت إشرحلو عن المقاومة ومعناها عنّا كفلسطينيين .. فعرفت إنو مش رح يفهمني. ومع اختلافي مع حماس وحزب الله وغيرو وغيراتو، إلا إني بآمن إنو المقاومة حق وواجب!
وبهيك، وبطريقة جداً مش سلمية، أنهيت دراستي بالعلوم السياسية، وقررت إتعلم أدب عربي وحضارة إسلامية!
وبعد هاي الحادثة، اهتمّيت أكثر بموضوع غزة ... البلد اللي زرتها زمان وإسا مش قادرة أشوفها ولو من بعيد!
ريهام، صديقتي اللي بعرفش ملامحها غير عن طريق صور فيسبوكية، عرفتها بصدفة افتراضية، وحكينا. اتشاركنا أغاني وطنية ملتزمة، صورها الإبداعية من شوارع غزة، قصصي إلّي بنشرها بمدونتي، والقصص اللي بخليها بس لإلك!
بعرفش ليه هيك هي الأمور بعلاقتي معك!
مش عم بحكي عن الحواجز، الاجتياحات، الجدار، الوطن المسلوب، الاحتلال اللي مش شكله رح ينتهي!
بحكي عن الأمل اللي ضاع مننا، عن الغربة اللي سكنت بقلوبنا كلنا، عن الشعور إنك بتدوّر دايماً ع الغد الأفضل، الغد اللي ضايع بزوايا المخيمات بالضفة، ع أمواج بحر غزة.. أو بقلوب الناس بأراضي 48!
بس بعرفش ليه بكون دايماً ع يقين إنو رح أشوفك ع شط غزة أو حيفا أو حتى برام الله!
رح نغنّي سوا للوطن للحب للحرية، ورح نتصوّر صورة سوا ... ونعلق نسخة ببيتي والتانية ببيتك!!
مفكرش هاد حلم كبير! بس هاد حلم واحدة فلسطينية ... يمكن يكون مستحيل ... بس .. إيه في أمل.

روزالين حصري ــــــ أم الفحم