يلتفّ تجمّع «المعشوق» ويدور بخشوع حول التلة الصغيرة الجميلة، ثم ينزل ويتناثر بين قبور الجبّانة والأراضي الزراعية، قبل أن يصل إلى المساكن الشعبية ويتوقّف عن الامتداد. يختلف المعشوق بشكله العضوي هذا عن الأحياء المحيطة، وينطبع الشكل الملتوي هذا للأزقة على المباني وشكلها الذي يصبح كما الأقمشة، ينطوي أو يتمدّد ويرقص مع تغيّر التضاريس وانعطافاتها. وتنتهي البيوت في القمّة بقبّتين، تنتشر وتُنشر قطع الغسيل من حولهما، ويدلّ سُلّمان حديديّان على إمكان الصعود إلى أعلى القبة الصغرى. وهناك، ينفتح المكان على صور والأراضي الزراعية وانبساط الساحل والبحر والقرى... وكأنها المساحة الوحيدة التي تربط المعشوق بمحيطه أو تسمح لبرهة بأن يعترف الاثنان أحدهما بالآخر.التلّة اسمها القُبّة بسبب قبّتي مقام المعشوق اللتين تعلوها، يسكنها الفلسطينيّون، وإلى الشرق بينها وبين مخيّم البرج يقع حي الجورة ويسكنه أهل القرى السبع من طربيخا تحديداً، وإلى الغرب تقع الجبّانة (المقبرة) والبيوت حولها يسكنها فلسطينيّون. المكان مفصول بكل وضوح بين «فلسطينيّين» و«مجنّسين». يضحك محدّثي ويقول: «حتّى الجبّانة قاسمينها. الجهة الجنوبية لأهل طربيخا، والشمالية للفلسطينيّين». لم أسع من خلال الأحاديث والمقابلات إلى جمع صورة «حقيقية» عن المعشوق، بل أردت عبر تعدّد الروايات أن أرسم صوراً للمعشوق كما يراه أهله.
كثيرة هي القصص عن تسمية تلّة المعشوق والقبّتين. تسمع أحاديث عن «النبي معشوق»، لكن القصّة التي تتردّد أكثر من غيرها هي تلك التي تتكلّم على قصة حب «العاشق والمعشوق»، إذ لا يُعرف من يكونان أو في أي حقبة عاشا، بل تتنوّع القصص فتتكلّم إحداها على شاب مسيحي وصبية مسلمة عاشا منذ حوالى خمسمئة سنة، وكان حبّهما مستحيلاً، فانتحر العاشق على التلة الجميلة المطلّة على البحر. أما الرواية الأخرى، فتقول إنه منذ أكثر من عشرة آلاف سنة عاش عاشق ومعشوقته وماتا على هذه التلّة، ولا يُعرف ما الذي كان مميّزاً في علاقتهما، فجعل الناس يبنون لكلّ واحد منهما قبراً مخصّصاً وقبّة ويقدّسون المكان. إلّا أن الروايتين تؤكّدان قدسية المكان عند الناس. والقبّتان، بأعوامهما التي قد تبلغ بضع مئات، أو أكثر من 10 آلاف ـــــ بحسب أي قصّة نريد أن نصدّق ـــــ هي آثار حيّة تعيش فيها عائلتان ويزيّن الغسيل حجارتها المتآكلة. البيوت في المعشوق مبنية على أراضي وزارة الزراعة، في الجزء الغربي للتجمّع وعلى أراض تابعة للوقف الإسلامي في الجزء الشرقي الذي تحتلّه تلّة المعشوق. (والغريب أن يكون المقام المبنيّ على التلّة، والذي بحسب الروايتين هو إما مقام لشخصيتين وثنيّتين (رواية العشرة آلاف سنة) أو على الأقلّ قد بني نتيجة مأساة وجود الدين، أن يكون هذا المقام تابعاً لأوقاف دينية. فهو في كلتا الحالتين يدور حول قصّة حب. وكم يكون صدر الدين منفتحاً ومرحّباً بقصص الحب والغرام).
أردت أن أعرف أسباب نشوء هذا التجمّع. سألت لماذا جئتم تعيشون هنا، لا داخل المخيّم؟ تلقّيت الكثير من التحليلات، فمعظم الذين يعيشون هنا هم إمّا من الجيل الثاني أو الثالث، ويحاولون تذكّر ما روُي لهم أو ما سمعوه من أهلهم. وكان لافتاً ما روته لي أمّ علي القادمة من طربيخا ـــــ القرى السبع ـــــ المشجّعة لحركة أمل وأحدى محبّات السيّد موسى الصدر، بأنّها سمعت أن السيّد موسى كان قد علِم بأمر مهجّرين من القرى السبع في المنطقة وبأنهم لا يملكون مكاناً للجوء. فجاء إلى تلّة المعشوق وبنى النادي الحسينيّ، ودعا الناس قائلاً: من لا يملك بيتاً، فليأتِ ويبنِ هنا ويعش مع عائلته. ففاجأتني روايتها وحاولت التأكّد من صحّتها من مصادر أخرى، فسألت الناس في المنطقة، كما بحثت في الأرشيف عن أي شيء يربط السيد الصدر بالمعشوق، وتوجّهت إلى مركز مؤسّسات السيد في صور، وسألت، فلم أجد ما يثبت قصّتها. كان همّي البحث في مفهوم السيد الصدر في الشرعية وفي اهتمامه بالمحرومين على حساب سلطة القانون، لكنّني اكتشفت أنّها وبقصّتها هذه، كانت تحاول إعطاء شرعية لوجودها، هي الشيعية التي تعيش على نحو غير شرعي، عبر التعلّق بمكانة السيّد: فشرعيّتها تلقّتها منه شخصياً وهو أمر كافٍ لها، وهو أهم من سلطة الدولة. (الاحتماء بالمقدس)
كذلك فإنني وجدت رواية مثيرة أخرى. حكى لي أبو خالد شميس ـــــ المسؤول الثقافي لحزب الشعب وعضو في قيادة لجان منطقة صور ـــــ عمّا سمعه من أبيه وبعض كبار السن عن قصّة قدومهم إلى المنطقة واستقرارهم في المعشوق. فهم، بعدما كانوا يعيشون في البازورية (شرقي برج الشمالي)، حصل أن زار أبوه تلّة المعشوق، فوجد بضع عائلات وقد نصبت خيماً تعيش فيها وترعى مواشيها في المنطقة. فجاء بعائلته وأخذ خيمة واستقرّ هناك. ولكن لماذا جاء الفلسطينيّون إلى هذه التلّة بالذات؟ تاريخياً، كان المعشوق متنزّهاً لمنطقة صور، وهو تلّة صغيرة تشرف على امتداد صور في البحر من جهة الغرب، وعلى السهل الزراعي من الشمال والجنوب، وعلى القرى الداخلية من الشرق. وكانت التلّة معروفة بكثرة المياه فيها والأشجار، وكان الرحّالة المستشرقون يرسمونها كلّما جاؤوا لزيارة صور. يحكي أبو خالد بأن من قدِم إلى المعشوق هم من أثرياء الإقطاع الزراعي في عكّا وحيفا وطربيخا. وهم قدِموا من فلسطين مع ماشيتهم وأغنامهم، فاحتاجوا لأن يستقرّوا قرب أراض زراعية خصبة، وهو ما جعلهم يرفضون العيش في المخيّم الأقرب منه إلى المدينة ويستقرّون على التلّة الخضراء. واستمرّ امتداد التجمّع بانضمام ذوي القربى إلى السكان، بحيث غلب الطابع الزراعي عليه، إلى أن تطوّرت مانيفكتورة ابتدائية في صنع الحصر من القصب الذي كان يغطّي المنطقة. وفي هذه الأيام، لا تزال الزراعة أساسية، وخاصة زراعة الحمضيات والزيتون والدخّان. ونجد في شكل البيوت وتقسيماتها مساحة يحتلّها الزيتون في باحة المنزل أو على السطح، أو الدخان المشكوك و«المستّف» تحت درج المنزل.

العلاقة مع اللبنانيّين والشكل المديني والسياسة والانتماء

لا يخفى على أحد أن الأمور لا تزال متوتّرة بين الفلسطينيّين وسكان الجنوب على العموم. وقد زادت الأمور تعقيداً منذ عام 2005، كما حصل بين الشيعة والسنّة اللبنانيين، بأن اتّخذ الوضع منحى طائفياً، فانخفض مثلاً عدد الزيجات بين اللبنانيّين الجنوبيّين الشيعة والفلسطينيّين السنّة. كما أن الأحزاب لا تزال حاضرة وبقوّة بأجنداتها وذكرياتها المحوّرة وكرهها وحاجتها المريضة للثأر، لتجعل من الفلسطينيّين سبباً تاريخياً لكلّ مشاكل الجنوب. ويظهر خطاب حركة أمل بالذات واضحاً وصريحاً وعنصرياً، ولا يخفى في الممارسة والتعامل مع الفلسطينيّين. فالمعشوق مثلاً، وهو متّصل عضوياً بمخيّم برج الشمالي وبتجمّع المساكن الشعبية غير الشرعي أيضاً، إلّا أن الفصل بين اللبنانيّين والفلسطينيّين موجود على الأرض: فالمخيّم والمعشوق للفلسطينيّين والمساكن للبنانيّين. يعيشون منفصلين بالرغم من تشابه الانتماء والمشاكل والهموم، والأهمّ العدو.
يؤكّد المسؤولون في اللجنة الشعبية التعاون بينهم وبين الأحزاب اللبنانية. كما يصرّون على انتهاء مرحلة المشاكل والكراهية بينهم وبين اللبنانيّين. إلّا أن من تعيش في المنطقة فترة كافية تسمع وترى بوضوح كيف يتكلّم هؤلاء على الفلسطينيّين واعتمادهم لغة اليمين المسيحي اللبناني وخطابه وتماديه في روايات غبيّة عن بيع الفلسطينيّين أراضيهم والقضيّة، ما يُسقط حقّهم بالمطالبة بالعودة... والمضحك أن هذا الكلام يُعاد ويُعاد في كل مكان كترتيلة يحفظونها ويروونها أمامكم وكأنهم متأكدون من ردّة فعلكم لأنكم ولأنكنّ لبنانيات ولبنانيّون. وتنعكس هذه العنصرية على نبذ التجمّعات والمخيّمات الفلسطينية وانسلاخها القسري عن محيطها الاجتماعي والسياسي والمديني.
لكن، ما الفرق بين وضع الفلسطينيّ والفلسطينيّة داخل المخيّم وخارجه من ناحية الانتماء والهوية؟ فما تخلقه «وصمة» العيش في مخيّم فلسطيني والوجود الكثيف للفصائل الفلسطينية على الأرض، وانطباع هذا كلّه على الشكل المديني، من صور وأعلام ورسوم ومبانٍ تابعة للمنظّمات، هل يزول هذا كلّه في محيط «عفوي» لا يملك شرعية هوية فلسطينية، وليس فيه المنظّمات الفلسطينية بقوة؟
درت في المعشوق أصوّر الحيطان. فوجدت رسوماً لأبو عمّار، بوسترات للشهيدة دلال المغربي، كتابات عن العودة، رسوماً عن فلسطين، جمل «ضد الخونة» و«فتح أمّ الكل»... بدت الأمور أقلّ تشنّجاً من المخيّم المتاخم مثلاً، وكأن ما اكتساه التجمّع من رسائل سياسية كانت بهدف التعبير أكثر منها إثبات وجود وتحدّ للآخر كما في المخيّم. ويضحك محدّثي عندما أساله عن الهويّة في المعشوق ويقول: «الحسّ الوطني في التجمّع نقي، هو بعيد عن بواريد السياسة وحبوب الهلوسة. الانتماء أوضح لفلسطين. وهو ما رأيناه في يوم العودة على الحدود. أتذكرين من كان على الحدود؟ أوّل من نزل إلى الحدود كانوا من برج الشمالي، وهم الأكثر حرماناً في المنطقة... ولحقهم أهل شبريحا وجل البحر والمعشوق (تجمّعات فلسطينية غير شرعية في منطقة صور)... وهذا يثبت فكرة أن الثورة يقودها الفقراء ويكونون فيها في الطليعة». وسكت محدّثي برهة، ثمّ راح يروي لي كيف خرج أهل المعشوق عام 2009 للتظاهر دعماً لغزّة. قال إنهم اتفقوا على التحرّك من الجامع بعد صلاة الجمعة. وعندما تجمّعوا وسدّوا الطريق، جاءت الاتصالات من الاستخبارات تستفسر عن المنظّمين، فقالوا إن الأهالي تجمّعوا من دون تنظيم. وفسّر لي كم كان الجمع كبيراً لأن «أهل المعشوق كان محروق قلبهم على غزّة ومقهورين إنو مش قادرين يعبّروا». فعدم انتمائهم إلى مخيّم يمنع عنهم الصفة الشرعية، فيزول بذلك وجودهم السياسي.
ويظهر الانتماء إلى فلسطين أيضاً، كما في باقي التجمّعات، عبر التاريخ المحكي. أبو خالد من قرية الغارسية قضاء عكّا، يحدّثني عنها وكأنه يعرفها، عاش فيها، زارها. «تبعد 800 متر عن عكّا وتعلو 600 متر عن سطح البحر» يقول، «كانت تحوي حوالى 600 ألف نسمة عندما هُجّرنا منها. كلّ قرية قاومت أُبيدت، وهذا كان مصير الغارسيّة». أبتسم عندما يحدّثني عنها، ينتمي إليها من دون أن يعرفها. هذه حال معظم الفلسطينيّات والفلسطينيّين الذي ألتقيهم في منطقة صور. يحكون عن المنطقة التي جئن وجاؤوا منها من فلسطين بالتفاصيل، يروون عنها حكايات وأراهم والعيون تلمع لتخبّئ ولو قليلاً مرارة الغربة والمخيّم، أراهنّ وأراهم يصفون أرضهم، يرسمونها ربّما بغير ما هي في الحقيقة، ولكن بما سمعوه مراراً من جدّاتهم وأجدادهم وببريق التي والذي يعرف أنه عائد. أذكر مرّة في الأردن، وأنا جالسة في الدار مع عائلة من الخليل، الأب خمسينيّ لم ير الخليل يوماً، والأولاد يجلسون على الحصير، تسأله الفتاة بأعوامها الخمسة عشر، وكأنّها تكمل حديثاً بدأ منذ زمن: بابا مش الخليل فيها جبال ما هيك؟ فيجيبها الأب بثقة: «بابا، الخليل بنصّها في تلّة إسمها تلّ الرّميدة. وهي بتطلّ على كلّ البلد القديمة. والتلّة متلانة زيتون وهو من أطيب الزيتون بالعالم!»... وهي مصغية بإمعان وأنا أنظر إليهما غير مصدّقة. هو لم يكن هناك يوماً، وإذا ما نظرنا إلى الأمور اعتماداً على الوضع الحالي للأمور، فمن المؤكّد أن ابنته لن تستطيع رؤيتها أيضاً. ولكن ها هما، يتحدّثان ببساطة العالم بخفايا الأمور عن أرض ينتميان إليها. فالانتماء شعور لا ينقضي بالتقادم ولا بالبعد الجغرافي. وهو أمر لطالما حاربه المنظّرون والمنظّرات العنصريون الذين واللواتي يرون في وجود الفلسطينيات والفلسطينيّين على الأراضي اللبنانية (المقدّسة) حسداً وطمعاً ونسياناً للقضية والأصل.
الانتماء إلى المعشوق والانتظار
ينفصل تجمّع المعشوق عن محيطه اللبناني. ينزوي وينفتح من داخله بعضه على بعض. فالبيوت المتلاصقة والبساتين الصغيرة والأزقّة الملتوية تجعل من الاحتكاك بالجيران ضرورة. والآخر جزء من قصّة الانتماء والذاكرة. يقول الفيلسوف الفرنسي إيمانويل لوفيناس إن فكرة الحصول على «مسكن متساوية مع الكينونة. هي أساس الوجود العقلي والجسدي. ويتم إنتاج كل اعتبار للأشياء وللمباني من المسكن. فالمسكن لا يقع في العالم الموضوعي، لكن العالم الموضوعي يتجسد عبر علاقتي الخاصة بالمسكن». وسكّان المعشوق الفلسطينيّون، يخلقون بصنعهم لمأواهم هذا في فضاء محدود، مساحة الانتظار. ويظهر هنا وجه علاقة خاصة بين الساكن والمأوى. فالمعشوق هو كينونة الفلسطينيّين وأهل القرى السبع، ينطبع بطباعهم ويرتدي الشكل الذي يحتاجون إليه في مكان السكن والعمل والراحة. لكنّه أيضاً، وببساطة أساليب التعبير، يحمل همومهم وآمالهم وحرقة قلبهم. وإذ تبدو الأمور من الخارج بسيطة سهلة واضحة، بوضوح الفرق بين اللبناني والفلسطيني أو الشرعي وغير الشرعي أو المخيّم والتجمّع... إلّا أن الأشياء ليست بهذه البساطة. فكون العلاقة بالمسكن على هذا القدر من الأهمية وكون الاتصال بفلسطين كفكرة وكمكان الانتماء المسكن الأساسي في المخيّمات الفلسطينية، ألا يخلق هذان الانتماءان وهمَ التعلّق والانسلاخ، في الوقت نفسه؟ ألا يكون المعشوق مسكناً ويحمل في جوهره كتجمّع لاجئين، أساس الغربة والانتماء، المدّ والجزر، الجذب والرفض؟ بين هاتين القوتين المتضاربتين، تنشأ هوية وينمو مكان هو في الوقت نفسه أقرب ما يكون إلى المسكن وأبعد ما يكون عنه.



في عام 1956، كانت الأراضي الزراعية المحيطة بالتلة خالية. حينها كان المقام يبدو وحده كمغناطيس تلتفّ من حوله الأشياء والبيوت وتتعرّج الطرقات. واليوم، ومع أن المقام يعود إلى عهد وثني فقد قيمته لكونه «غير ديني»، فإن «قدسيّة» المكان لا تزال مخيمة. يضعنا ذلك أمام سؤال عن معنى القدسية: إذ يبدو هذا المفهوم هنا بعيداً عن الفكر الديني بطقوسه ومحرّماته. وتظهر مكانه علاقة يومية بالحياة الواقعية: بالغسيل وصراخ الأولاد وروائح الطبخ وواقع مَعيش وشهوانية قصة حب، إذ تتوقّف «الحجّة الدينية» ويخلق مكانها البيت بقدسيّته وقدسيّة المقام والرواية.