«مصر أخت تركيا، والقاهرة أخت إسطنبول». هذا ما قاله رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان في القاهرة، فما كان من جمهوره، ومعظمه مؤلف من تيارات إسلامية تنتظر عودة الخلافة، إلا أن أجابه بـ «يا أردوغان يا زعيم وحّد صف المسلمين»، إضافة إلى «مصر وتركيا إيد واحدة». أردوغان كان أحدث من جمهوره بالتأكيد، لكنه يعرف الجمهور جيداً، وموهوب أيضاً في تفجير المشاعر. تحدّث «السيد التركي» بعد تأخير ساعتين على موعد لقاء دار الأوبرا المصرية بالعربية، فقال إنّ «مصر بلد سيدنا موسى ويوسف، ومصر أم الدنيا». داعب أردوغان النرجسية المصرية بنعومة، مشيراً إلى أن «مصر مركز الحضارة الإسلامية القديمة، ومنارة العلم والمعرفة من خلال الأزهر». وبحسب كلامه، فإنّ مصر أيضاً هي «صوت (عبد الباسط) عبد الصمد وأم كلثوم». كلام كان كافياً لإلهاب الحماسة، وخاصة أنه يقدم نموذجاً لسياسي «إسلامي» متحرر من القوالب، ولا يرى مانعاً وهو يعدد الأيقونات المصرية، ولا يجد حرجاً من وضع المطربة الأولى بجوار الأزهر والمقرئ الديني الشهير. أردوغان في القاهرة طالِب أحلاف وفاتح أبواب، لا موحّد ولا زعيم، لكنه يعرف الملعب الذي يمارس فيه لعبته، ويختار الأماكن القوية لإحراز الأهداف؛ فزيارته إلى جغرافيا الثورات العربية، هي زيارة إلى «الربيع العربي». أردوغان لا يضع الثورات العربية في خزانته، أو يضيفها إلى رصيد اللاعب التركي، لكنه يقدم عرضاً بركوب رياح التغيير. إنه مشّاء في مسيرة الثورة. لا يريد قيادتها، لكنه يريدها أن تفتح له الأبواب التي كانت مغلقة أيام الدكتاتوريات. الحلف الجديد يريده أردوغان على أساس المكان الجديد لدول في مرحلتها الانتقالية، وهو هنا ناصح بخجل، وراعٍ على استحياء ومن موقع الخبرات يقول للمصريين «لقد خطوتم خطوة جيدة، وستذهبون إلى التصويت لتختاروا النظام الجديد، ليكون ميلاداً جديداً لمصر بعد الانتخابات».
أردوغان يريد إيصال رسالة واحدة: تركيا ستدخل من الباب الذي يفتحه التغيير، من دون أن تضع خاتمها على هذا التغيير. يؤكد بذكاء أن «الإدارة التي لا تتفهم إرادة الشعوب هي إدارة غير شرعية، وذاك هو لب سياسة تركيا في المنطقة». الرسالة المهمة هنا أن تركيا ستجد مكانها ضمن موجة الصحوة الجديدة، أو في ما وصفه أردوغان بـ «انقلاب تاريخي وثوري وديموقراطي»، لافتاً إلى أن هذه الفترة ستمر بأمن وسلام وتركيز على مستقبل مصر.
أردوغان كرّر حكمته التي سبق له أن أرسلها في خطاب علني الى الرئيس حسني مبارك قبل خلعه من الرئاسة: «لا بد من الإصغاء إلى مطالب الشعوب الإنسانية، إذ لا يمكن تأجيل الحريات وغض النظر عنها، ففي النهاية جميعنا سنموت ونوضع في قبر مساحته متران». اعترف بأنه عندما وجّه هذه الرسالة إلى مبارك، «جاءني خبر من مصر أن هذه الرسالة شنيعة، فقلت إنني لم أوجهها إلى أحد بعينه، بل إلى كل أغنياء العالم، ومفادها أننا جميعاً سنموت، ولا بد أن نعمل في المرحلة المقبلة بالعقل ومفهوم احتضان الجميع، فقد انتهى عهد تأجيل الديموقراطية بدعوة أنها تحريك من الخارج، فالحرية والديموقراطية ضروريتان كالخبز». أردوغان العاطفي لم يكن بعيداً عن لغة المصالح وهو يشير إلى طفرة في التعاون المصري ـــــ التركي في المجال الاقتصادي، وحجم التبادل بين البلدين، الذي كان 60 مليون دولار منذ خمس سنوات، ووصل الآن إلى 4 مليارات دولار. وبعدما عرض مساعدة تركيا لمصر في هذه المرحلة، من أجل استثمار وتعاون أكبر، أكد أن نقل الغاز الطبيعي من مصر إلى تركيا له أهمية كبيرة، ويفتح آفاقاً جديدة للمنطقة، متعهداً أن تكون مصر مفتاح تركيا لأفريقيا، في مقابل أن تكون تركيا مفتاح مصر لأوروبا.
كلام سياسي يمنع الخطابات العاطفية من الانفراد بخريطة المنطقة التي يُعاد تشكيلها، منطلقة من بلدان الربيع العربي، وبتحرُّك سريع وذكي من اللاعب التركي، ليضع جميع أطراف الإقليم في وضع ثابت انتظاراً لما تؤدي إليه خطة هجوم أردوغان، التي تعبّر عن واقع جديد يترجم باستمرار لمعان النجم التركي، حتى بعدما لم يعد وحيداً مع عودة لمعان نجم مصر الجديدة، ودخولها إلى الساحة بعد سنوات من جمود حقبة مبارك.
وبعيداً عن عاطفة تحرك المنتظرين للبطل، أردوغان في القاهرة سيحرك ألواح التحالفات، لتغيير خريطة الإقليم، ولتبدو إسرائيل في عزلة إقليمية غير مسبوقة، وكل ذلك في لحظة لم يعد فيها التغيير في العالم هو المحرك، بل التغيير في القوى الإقليمية.