تتسم المقاربة الإسرائيلية حيال خطوات تركيا وردود فعلها، من ناحية سياسية، بكثير من الحذر وتجنب الرد الندّي المفضي الى مزيد من التصعيد وتأزّم العلاقات بين الجانبين. وفي الوقت الذي ترفض فيه إسرائيل تقديم الاعتذار المطلوب تركيّاً، على خلفية قتل الجيش الإسرائيلي تسعة أتراك على متن سفينة «مافي مرمرة» العام الماضي، تؤكد ضرورة ترميم العلاقات والسعي إلى إعادة الأوضاع البينية الى سابق عهدها، لكن في الوقت نفسه، تبدو تل أبيب مطمئنة إلى واقع القدرة التركية على مواصلة التصعيد، وما يمكن أن تبلغه من مستويات في مواقفها وخطواتها السلبية.اطمئنان إسرائيل لا يعني، بالتأكيد، أنها غير معنية بتصويب العلاقات مع تركيا، وانتظار أن «يعود الأتراك الى رشدهم وإدراك حدود القدرة لديهم»، بحسب تعبيرات إسرائيلية. هناك في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل، الكثير من التغيرات والتحولات، التي من شأنها أن تدفع تل أبيب دفعاً، لتجاوز أي خط أحمر تضعه لنفسها حيال تركيا، بما يشمل مسألة «الكرامة القومية» الذي يثيره الاعتذار، وتداعيات أخرى يجري التنظير لها من بعض الأطراف في إسرائيل. وليس أقلها التغيرات والتحولات في بيئة إسرائيل الاستراتيجية، وهي الآتية:
سقوط حليفها القديم على جبهتها الجنوبية، الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، وعدم اليقين من اليوم الآتي في مصر وما يمكن أن يحمله من أضرار للمصلحة الإسرائيلية التي كانت مضمونة طوال الأعوام الثلاثين الماضية في ظل النظام البائد؛ الانسحاب الأميركي المرتقب من العراق، وما سيفضي إليه من تداعيات سلبية على مكانة الإدارة الأميركية وفاعليتها في المنطقة، وعلى حلفائها فيها، وفي مقدمهم إسرائيل؛ تعزز مكانة إيران الاستراتيجية والسياسية في المنطقة، وتوسع نفوذها في أكثر من ساحة من الساحات المحيطة بالدولة العبرية، على حساب تراجع المكانة الأميركية وتقلص نفوذها؛ تبلور المزيد من المعادلات الإقليمية في مرحلة التحولات في الساحات العربية، التي من شأنها أن تكبح المبادرة الإسرائيلية في هذه الساحات وتقيدها، وتحديداً ضد ساحات الأعداء المباشرين في المنطقة؛ وأيضاً، الخشية من انتقال الانتفاض الشعبي العربي الى الساحة الأردنية، وتهديد نظام الملك عبد الله الثاني، الحليف التقليدي للدولة العبرية ولسياساتها حيال المنطقة والفلسطينيين.
مع ذلك، ورغم كل هذه الأسباب، يُظهر صناع القرار في تل أبيب تشدداً ظاهراً في رفض تقديم اعتذار رسمي ومباشر لتركيا، من شأنه أن يساهم في إعادة ترميم العلاقات بين الجانبين، أو في أقل تقدير، تجميد مستوى التردي في حدود معقولة، تحول دون تدحرج الأزمة الى مستويات أكثر تكون كفيلة بضغط أكثر على تل أبيب في هذه المرحلة.
بالطبع، في ما يتعلق بمبرر الكرامة القومية، لا يمكن المجادلة أنه عامل حاضر ومؤثر لدى إسرائيل في مثل حالات كهذه، لكنه لا يكفي لتفسير الموقف الإسرائيلي الحالي، وخصوصاً أن للحسابات الاستراتيجية الأخرى والمؤثرة بدورها، حضورها القوي والفاعل في القرارات الإسرائيلية، وخاصة عندما تتعلق المسائل بالأمن القومي الإسرائيلي، وعلى نحو أكيد في ظل التحولات الإقليمية والدولية التي تمر بها المنطقة، ما يعني أن «الكرامة القومية» ليست هي المحرك الأساسي لرفض تل أبيب الاعتذار من أنقرة.
من الأسباب المسوقة في إسرائيل، الخشية من أن يؤدي الاعتذار إلى سابقة، تؤسس بدورها لمطالب مماثلة في أي حادثة مستقبلية قد تعترض إسرائيل، وأيضاً أن يشجع الاعتذار جهات على رفع دعاوى قضائية ضد تل أبيب ومسؤوليها العسكريين والسياسيين، حتى وإن تضمن اتفاق الاعتذار التزاماً تركياً بعدم التحرك قضائياً. أيضاً إقرار إسرائيل بخطئها، واعتذارها عنه، وتحميل جنودها وضباطها مسؤولية هذا الخطأ، سيصعب عليهم المشاركة في عمليات مستقبلية، ويضطرون الى تقييد هامش المناورة لديهم، خوفاً من لجان التحقيق والاعتذار في المستقبل.
مع ذلك، ووفقاً لحسابات أخرى تتردد في إسرائيل، ليست تل أبيب حتى الآن أمام واقع يفرض عليها التضحية بالكرامة الوطنية، وبالأثمان الكبيرة جراء الاعتذار، لإدراكها بأن السقف السياسي التركي في مواجهة إسرائيل بعيد جداً عن السقف العدائي الحقيقي، كما هو عليه الموقف الإيراني الرافض لأصل وجود إسرائيل وداعم حقيقي ومادي لفصائل المقاومة في لبنان وفلسطين، وبالتالي تدرك إسرائيل أن رئيس الحكومة التركية، رجب طيب أردوغان، وغيره من المسؤولين الأتراك، لن يتجاوز الخطوط الحمراء النهائية في تصعيده، لاعتبارات عديدة ومختلفة، منها ما يعود إلى حقيقة التوجهات التركية الحالية في المنطقة، وأخرى تتعلق بارتباطاتها الأطلسية والأميركية. وبالأخص، بحسب تل أبيب، لا يتوقع أن تخرج الأزمة بينها وبين أنقرة عن الحدود التي تجعلها مصدر تهديد للمصالح الأميركية في المنطقة، ولا سيما عشية الانسحاب الأميركي من العراق، وهي كما يبدو ويتأكد مصلحة مشتركة للطرفين.
مع ذلك، يضغط تسارع الأحداث في المنطقة على إسرائيل، ومن شأنه أن يدفع بتل أبيب في نهاية المطاف إلى إعادة التفكير من جديد بصيغة اعتذار ما، تضمن رضى تركيا وتمكنها من تجاوز محظوراتها، بل قد يدفع تسارع الأحداث بإسرائيل، في سيناريوات تحول متطرفة للساحات العربية، إلى الإسراع للاعتذار الواضح والمباشر... والفرضيات الثلاث ممكنة، لكنها مرتبطة بالظروف وتلك التي يمكن أن تنشأ: البقاء على رفض الاعتذار، طالما أنه ليس في نية أنقرة ولا في إمكانها أن تتوغل بعيداً في إجراءاتها «العدائية» ضد إسرائيل؛ الرهان على عامل الزمن الذي يعيد تركيا الى «صوابها» وتفهم بأن قدراتها أقل بكثير من طموحاتها، وبالتالي تقبل بصيغة اعتذار «مخففة»، ترضي أنقرة وتل أبيب على حد سواء؛ أما الفرضية الثالثة فهي أن تسبق الأحداث والتحولات في المنطقة الرهانات الإسرائيلية، وتسقط البيئة الاستراتيجية للدولة العبرية في حدودها الدنيا، ما من شأنه أن يدفعها دفعاً إلى المسارعة وتقديم الاعتذار، حتى وإن كان واضحاً ومباشراً ولا يراعي «الكرامة القومية».
إذاً، الاعتذار أو رفض الاعتذار، أو الاعتذار المخفف، أو الاكتفاء بالأسف، وغيره من الصيغ المتداولة إسرائيلياً، مرتبط تحديداً بالعوامل والمؤثرات بين الجانبين، لكن بشكل أساسي، مرتبط بوجه التحولات والتغيرات في المنطقة، وطالما أنها لا تزال بعيدة نسبياً عن الإضرار المباشر بإسرائيل، رغم بدء انكشاف إسرائيل على تأثيراته، كما تبين خلال عمليات إيلات الأخيرة وحادثة اقتحام السفارة الإسرائيلية في القاهرة...
في وقت سابق، كادت صيغة الاعتذار المخففة أن تبصر النور، لولا عراقيل وتسريبات أدت الى تجميدها. وقد كشفت الصحف التركية في حينه أن أنقرة كانت مستعدة، مقابل اعتذار إسرائيلي رسمي، لإعادة تعزيز العلاقات الثنائية بين الجانبين، على الصعيدين العسكري والاقتصادي، الأمر الذي يكشف أن جوهر السياسات التركية الحالية حيال إسرائيل لا ينبع من عداء، بل من مصلحة ظرفية، بإمكان ثمن ما أن ينقدها ويحدّ منها أو حتى ينهيها. حقيقة تبلور صيغة جرى الإعلان عن قبول تركيا، مبدئياً لها، يشير الى أن الأزمة في العلاقات بين الدولتين لا تنبع من دوافع إيديولوجية أو خيارات استراتيجية، لجهة الطرف التركي على الأقل، بل من مصالح سياسية ظرفية، ترتبط بشكل أو بآخر بالصراع على النفوذ في المنطقة.
بموازاة ذلك، لا بد من الإشارة الى التقدير القائل بأن من «عدة شغل» أنقرة في بحثها عن القيام بدور إقليمي نشط وفعال تأجيج لهجتها ومواقفها ضد تل أبيب، وتوظيفها في تحقيق اختراقات في الساحات العربية المختلفة، ومن بينها مواقفها الإقليمية ضد النظام السوري الداعم للمقاومة في لبنان وفلسطين، وأخيراً تأمين تغطية لخياراتها الاستراتيجية مع الأميركيين، في نشر الدرع الصاروخية الأطلسية في مواجهة إيران وروسيا وسوريا، كدليل على ثباتها في ارتباطاتها الدولية المعروفة، وكونها جزءاً لا يتجزأ من الحلف الأطلسي. من هنا، تنطلق بعض الأصوات داخل إسرائيل، وتدعو الى قطع الطريق على هذا التكتيك «الأردوغاني»، كي لا يكون على حساب تل أبيب، ولعل هذا التقدير كان أيضاً وراء رفض الاعتذار الإسرائيلي من تركيا.
في الختام، من المجدي إجراء تمرين ذهني، (من زاوية إسرائيلية) حول ما سيكون عليه موقف تل أبيب، فيما لو وجدت نفسها بين خيارين:
الخيار الأول هو موافقة تركيا على نشر الدرع الصاروخية على أراضيها، بما يحمله من أبعاد ونتائج استراتيجية إيجابية جداً حيال أمن إسرائيل، رغم أنه يتزامن مع خفض مستوى العلاقات الدبلوماسية وإجراءات تردّ أخرى في العلاقات. أما الخيار الثاني فهو عودة العلاقات الى ما كانت عليه بين الجانبين، تركيا وإسرائيل، وتمتينها على المستوى الاقتصادي والتبادل التجاري والعسكري، لكن مع رفض تركي لنشر الدرع الصاروخية، أو أي اتفاق أو إجراء آخر مشابه، يجعل تركيا جزءاً من استراتيجية أطلسية في مواجهة إيران. الجواب يكفل للجميع، فهم ما يجري، وإلى أين يمكن أن يصل إليه «تردي» العلاقات بين تركيا وإسرائيل.



اطمئنان إسرائيلي

العامل الأكثر تأثيراً في القرار الإسرائيلي الحالي في ما يتعلق بالاعتذار لأنقرة من عدمه، هو الاطمئنان الى أن تركيا لن تسمح بإيصال العلاقات البينية الى حدود العداء. ومن أبرز الشواهد على صحة هذا التقدير، التزامن المريب بين مسألة نشر أنظمة رادار الإنذار المبكر، كجزء من منظومة الدرع الصاروخية على أراضيها، وفي الوقت نفسه التصعيد السياسي، الذي يقوده رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان، في مواجهة إسرائيل. مع كل ما ينطوي عليه الأول من فوائد وأبعاد استراتيجية إيجابية لإسرائيل، ولا سيما أنها موجهة بالأساس ضدّ إيران، علماً بأن مسألة الدرع الصاروخية، على أهميتها الكبرى، سقطت على ما يبدو من التداول التحليلي العميق، رغم أنها ذات أهمية قصوى وذات صلة مباشرة بالأمن القومي الإسرائيلي، ولا يمكن فصلها عن المشهد الإقليمي بما يشمل الأزمة التركية الإسرائيلية.