كان أيلول من عام 2010 موعداً لحدثين بارزين بالنسبة إلى القضية الفلسطينية ومساراتها التفاوضيّة، الأول كان كلمة الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام الجمعية العامة، حين اعتلى المنبر ليعلن أمانيه بأن يشهد افتتاح الدورة التالية للمنظمة الدولية انضمام عضو جديد إلى هيئة الأمم المتحدة، عضو اسمه فلسطين. كلام أوباما حينها كان نابعاً من المساعي التي كان يقوم بها لاستئناف المفاوضات على المسار الفلسطيني، بعد أشهر من التوقف في ظل الخلاف على تجميد الاستيطان. مساعٍ أدت في النهاية إلى انعقاد قمّة واشنطن، التي كان من المفترض أن تدشن انطلاق مسار تفاوضي لمدة عام، تخرج بعده «الدولة الفلسطينية» إلى العلن. الفكرة إذاً أميركيّة الأصل، تلقفها الفلسطينيون من خطاب أوباما، وبلوروها في صيغ جديدة على أثر سقوط «مسار واشنطن» بعد أسابيع قليلة على انطلاقه بفعل الخلاف على تجميد الاستيطان، الذي هو أيضاً، للمناسبة، مطلب أميركي سار به الرئيس محمود عبّاس إلى النهاية، رغم تراجع الرئيس الأميركي عنه. وعلى هذا الأساس، ومع انتهاء فترة الأشهر التسعة من التجميد الاستيطاني، التي أعلنها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بينامين نتنياهو، ورفضه تمديدها، توقفت المفاوضات عند النقطة الصفر. مع مضي الأيام ودخول محاولات استئناف المفاوضات في نفق لم تخرج منه إلى الان، برزت مسألة إعلان الدولة إلى العلن. في البداية كانت صيغ الاقتراح الفلسطيني ملتبسة، ومتضاربة بين مسؤول وآخر، ولا سيما لجهة الكلام الذي قيل عن إعلان أُحادي الجانب للدولة الفلسطينية، الذي عادت السلطة إلى نفيه في وقت لاحق، لتعلن أن خيارها هو التوجه إلى الأمم المتحدة ونيل الاعتراف بالدولة عبر الصيغ القانونية. غير أن القيادة الفلسطينية كانت مدركة العقبات الكثيرة التي تعترض الطريق إلى الأمم المتحدة، وهي في البدء لم تكن على قناعة بأن الطريق سيؤدي في نهاية المطاف إلى الوقوف على عتبة المنظمة الدولية طلباً للاعتراف. وبحسب مصدر مقرّب من منظمة التحرير الفلسطينية فإن لواء الاعتراف كان مناورة من أبو مازن للضغط في سبيل العودة إلى المفاوضات، التي يعدها غايته النهائية، وهو ما قاله في أكثر من مناسبة، حتى في إطار تأكيده على الذهاب إلى الأمم المتحدة. ففي رأيه حتى لو نال الطلب الفلسطيني الموافقة في مجلس الأمن أو الجمعية العامة، فإن العودة إلى المفاوضات حتميّة. عبّاس أوشك على الاقتراب من تحقيق غايته عبر المبادرات الكثيرة التي جاء بها الموفدون الأميركيون والأوروبيون، إلا أنها اصطدمت دائماً بالإصرار الإسرائيلي على رفض تجميد الاستيطان. وهو إصرار لا يزال يتكرر، وخصوصاً على لسان وزير الخارجية الإسرائيلية، أفيغدور ليبرمان، الذي يرفض وقف البناء «ولو ليوم واحد».
أمام هذا الواقع، بدأ الرئيس الفلسطيني يجد نفسه ملزماً بوعد التوجه إلى الأمم المتحدة، الذي يحظى بنسبة تأييد كبيرة في الشارع الفلسطيني، رغم معارضة بعض الفصائل، وفي مقدمتها «حماس». للمرة الأولى ربما، بات عبّاس يمثل بعض الأمل للغالبية في الشارع الفلسطيني، الذي كان ناقماً على خياراته التفاوضية، وبدا سعيداً بأن خياراً آخر بدأ يلوح في أفق الرئيس الفلسطيني.
غير أن أبو مازن لم يكن على نفس الدرجة من السعادة، وخصوصاً مع ظهور المعطيات التي تشير إلى أن نيل الاعتراف صعب المنال، في ظلّ الإصرار الأميركي على إحباطه في مجلس الأمن، سواء عبر استخدام حق النقض أو منع حصوله على الأصوات التسعة المطلوبة، كما أن لمعاكسة الرغبة الأميركية والدولية تداعيات قد لا تحتملها السلطة الفلسطينية على المدى البعيد، وخصوصاً إذا انساقت الدول المانحة وراء المساعي الأميركي المعارضة، التي تلوّح بعقوبات مالية على السلطة في حال مضيها إلى النهاية في مطلبها. خشية ثالثة تطرح نفسها بالنسبة إلى أبو مازن مرتبطة بالداخل الفلسطيني وحركته المؤيدة لنيل الاعتراف بالدولة، التي قد تخرج عن إطارها السلمي مع الارتفاع المرتقب لدرجة الإحباط في حال فشل المسعى الفلسطيني في المنظمة الدولية، وخصوصاً إذا ما ترافق ذلك مع أزمة مالية بدأت تظهر ملامحها في الأفق مع تأخّر رواتب شهر آب وتحرّك العمل النقابي في الضفة الغربية ضد الحكومة.
كما أن أكثر ما يثير المخاوف لدى الفلسطينيين هو انضمام دول عربية إلى الحصار المالي، ولا سيما أن الدول العربية في المرحلة الماضية لم تف بتعهداتها للسلطة، وهو ما دفع أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير ياسر عبد ربه إلى الخروج للكلام عن «حصار مالي عربي». حصار قد يتوسّع في المرحلة المقبلة، وخصوصاً إذا صدقت الأنباء التي بدأت تتحدث عن تحوّل في مواقف بعض الدول العربية في نيويورك إلى الضغط على الفلسطينيين للتراجع عن طلب الاعتراف في مجلس الأمن.
قصّة الاعتراف لم تنته بعد، وخاتمتها قد لا تكون سعيدة بالمطلق، وخصوصاً في ظل الحديث عن «مخرج مشرّف» للسلطة الفلسطينية ورئيسها، الذي من المقرّر أن يقدم طلب نيل العضوية في أعقاب خطابه أمام الجمعية العامة اليوم. ملامح المخرج بدأت تلوح في الأفق مع إيفاء الرئيس الفلسطيني بتعهده للشعب و«تقديم طلب العضوية». غير أن اليوم التالي للطلب سيكون مختلفاً عمّا كان يظنّ الجميع، فلا تصويت قبل «أسابيع عدة»، بحسب وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه، هذا إذا وصل الطلب إلى مرحلة التصويت. وعلى هذا الأساس فإنه لا دولة في أيلول أو تشرين الأول. أما البديل، فهو استئناف التفاوض وفق صيغ تعمل اللجنة الرباعية على بلورتها، قد تكون أساسها مباردة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، الذي تحدث عن مراحل تبدأ بالدولة غير الدائمة العضوية، وتنتقل إلى المفاوضات الإطارية قبل ستة أشهر، وإعلان الدولة خلال عام.
إنه سيناريو أيلول الماضي يتكرّر، لكن في ظل دولة غير دائمة العضوية. المفاوضات قد تنطلق وفق آليات جديدة، لكنها لن تكون بعيدة أبداً عن السقوط مجدداً، وعندها سيرفع أبو مازن لواء العضوية الكاملة، لكن إلى أيلول المقبل.