«ظهر في وسط البلد»، قالها الرجل كأنه يحمل النبوءة أو البشارة، ولم يصدق المستمع أنه يحكي عن ظهور المشير حسين طنطاوي في قلب القاهرة، والمهم أنه بالملابس المدنية. التلفزيون أذاع المشهد وسط تهليلات وتكبيرات، استعادها من دولاب الذكريات مع الجنرالات السابقين، وأضيف بعض كلمات، مثل «الرصانة». والمعلق الضيف في التلفزيون تطوع ووضع المشهد في ما يمكن معرفته بسهولة، قال: «هذا الرجل يصلح لحكم مصر، ما دام قد خلع الملابس العسكرية وارتدى البذلة المدنية». كشف المعلق الحفلة التنكرية السياسية وأغراضها، وأفسد المشهد على المشير الذي ظهرت للمرة الأولى نوازعه للظهور منفرداً وسط جماهير وفي المكان القريب من فاعليات الثورة، بالملابس المدنية.

هكذا هلل تلفزيون الحكومة، وشحذت همم النفاق لتظهر مع تغيير البذلة مواهب ومهارات لم يعلنها للرجل من قبل.
المشهد لم يستغرق أكثر من دقيقة، لم تتح لكاتبه أن يتمعن في التفاصيل. ويبدو أنه وقع تحت تأثير الصراع بين دقة المشهد والتفاصيل، والقدرة على توفير الحماية للمشير أكثر من هذه الدقيقة. المشهد افتقر إلى العفوية، رغم أن هناك من اجتهد ليبدو عفوياً، لكنه المجهود الذي يفسد الهدف.
ما الهدف؟ لا أحد يعرف. أو من يعرف أن يفكر بعقل قديم جداً، لا يستوعب الخبرات أو تاريخ العلاقة بين الشعب والحاكم في مصر.
كل الحكام خلعوا البذلة الميري، وارتدوا بذلات مدنية، بل كان عبد الناصر يحب القمصان بالكم القصير، لكنهم في النهاية عسكر، وعقلهم في الحكم عسكري، وشرعيتهم شرعية الغالب يسيطر. العسكر لا يعترف إلا بالقوة، وحتى لو سمح للمصور بالتقاط مشاهد له وهو بالملابس الداخلية، كما فعل السادات وهو يسعى إلى أن يستوحي الموديل الأميركي.
مبارك أصابته كراهية البذلة العسكرية بعد قتل السادات. لكن مبارك بالبذلة المدنية ظل هو نفسه، الجنرال البطريرك الذي يجمع كل شيء في يده، منفرداً بالصولجان ومفاتيح الثروة والسلطة والوجود. مبارك الذي كان بحسبة قوة الشخصية أو الكاريزما ضعيفاً، ركب على موديل الجنرال بالبذلة المدنية، وكان الأشرس والأكثر قدرة على تفريغ البلد من قوتها الحيوية.
البذلة ليست هي نظام الحكم. إنها رمز الخديعة التي عاشها المصريون سنوات طويلة حين كان الجنرال يخلع البذلة العسكرية لكي يحول الشعب كله إلى جيش في خدمته.
ربما كان المشير يريد أن يقول الكثير من ظهوره المفاجئ. يريد أن يقول إنه لا يخاف من الناس، وإن له وجهاً مدنياً، وإن الشعب يحبه رغم شهادته في محكمة مبارك. رسائل كثيرة... لم تصل.
وصلت على نحو عكسي؛ لأنها رسائل مصنوعة بعقلية ٤٠ سنة مضت، ولأن المشاهد التكميلية أفسدها متوسطو الموهبة، الذين لا يتحمل الجنرالات غيرهم. مذيع التلفزيون هلل ووصف المشهد بأنه سبق يكشف قدرات الجهاز الرسمي على المنافسة.
أما ضيفه فقد كشف المشهد أكثر مما تسمح به اللحظة، وتحدث عن إمكان أن يحكم المشير ما دام قد ارتدى البذلة المدنية. قالها وكأنه يكشف سرية المشهد أو الخطة المرتبطة به.
هل كان المشير يعلن ترشيح نفسه للرئاسة وسينضم إلى قائمة «المرشح المحتمل»؟
أم أن المشير يقول للثوار: لستم وحدكم في وسط البلد؟
لا أحد يعرف.
المشهد كما تم بدا للجميع أنه مصنوع، وحبكته قليلة، ويكشف، وهذا هو الأهم، عن نيات غير معلنة تحت الخطابات المعلنة لإدارة المرحلة
الانتقالية. هذا الاكتشاف سر الغضب والسخرية من مشهد البذلة كما عبرت عنه صفحات فايسبوك، التي تتحدث عن «الخدعة» التي تعيد الجمهورية العسكرية بقناع مدني.
المشير وجد من يصافحه في الشارع، لكنه بدا عليه القلق والسرعة في السير، من دون أن ينظر إلى عين واحدة…
هل اكتفى المشهد بالدقائق العابرة؟
أم كان هناك تصور بأن الرسالة يمكن أن تصل في تلك اللحظات العابرة؟ إنه مسيطر.
هذه رسالة أخرى تأتي في لحظة انفلات حالية، ومتوقعة مع إعلان الانتخابات، انفلات من السطوة، بعدما أصبح وجود العسكر في الحكم هدفاً للهجوم، بعد انتهاء فترة المرحلة الانتقالية والاندفاع إلى مرحلة ضباب سياسي كثيف، حيث تدور عجلة النفاق أسرع من عجلة الإنتاج التي تروج ميديا الجنرالات أنها توقفت بسبب التظاهرات والإضرابات…
والنزول من خلف طاولة المجلس هو تأكيد لفكرة هبوط السياسة من أعلى، وسحبها من الشوارع، فالنزول هو تجسيد لهبوط القرارات من أعلى وانتظار المفاجآت كما كان يفعل الجنرالات في جمهورية الفرد الواحد.