«دعنا نتحدث دغري»، توجه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بالكلام إلى الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، من على منبر الأمم المتحدة الجمعة الماضي. استخدام تعابير عربية في الخطاب الإسرائيلي الرسمي الموجه إلى العرب، أمرٌ يلجأ إليه المسؤولون في الدولة العبرية بين الحين والآخر لأغراض مختلفة. تارةً يُقصد به الاستمالة والتقرب ـــــ على طريقة «الضحك على اللحى» ـــــ كما كان يفعل شمعون بيريز لدى مخاطبته الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، بكلمة «رئيس». وتارةً يكون الهدف منه إعلان التحدي الساخر في الموقف، ومثالُه مخاطبة الزعيم الليكودي، بيني بيغين، للفلسطينيين من على منبر الكنيست ضمن سياق تأكيد استبعاده حصولهم على دولة من إسرائيل، مستخدماً التعبير الفلسطيني الشعبي «بالمشمش».
وفي أكثر الأحيان تُستعار الألفاظ النابية العربية لإيصال الشتيمة إلى العرب بلغتهم، تماماً كما فعلت عضو الكنيست، ميري ريغيف، حين هاجمت زميلتها عن حزب التجمع العربي الديموقراطي، حنين الزعبي، لمشاركتها في أسطول الحرية، واصفة إياها بنعتٍ لا تحتمله أدبيات النقل الصحافي. مهما كانت خلفية الـ«دغري» التي استخدمها نتنياهو في خطابه الأخير، فإن الأهم فيها أنها تصلح لوصف مضمون الخطاب من زاوية الرؤية السياسية لنتنياهو. فحين حسم رئيس الوزراء الإسرائيلي التوجه إلى نيويورك، بعد طول تردد، كان يعلم أنه أمام معركة رأي عام خاسرة، وأن مهما يكن عدد الأرانب التي سيسحبها من قبعته الدعائية، فلن تؤثر في تحويل أضواء المسرح الأممي عن المطلب الفلسطيني الذي يبدو محقاً بالحصول على دولة. أقر نتنياهو قبل سفره بأن الاستقبال الذي سيلقاه في الأمم المتحدة سيكون بارداً، معللاً قرار السفر بضرورة «طرح الحقيقة التي نؤمن بها».
وبالفعل، إذا كان من خطاب يوجز الرؤية السياسية لنتنياهو، من دون التلوّن الذي تفرضه عادة اعتبارات مختلفة، فإن الكلمة التي ألقاها في الأمم المتحدة قبل أيام هي ذلك الخطاب. ربما لم تغب كلياً حسابات الرأي العام الدولي عن خلفيات الخطاب، إلا أن المؤكد أن المخاطَب الأساسي المستهدف فيه كان الرأي العام الإسرائيلي. يمكن افتراض وجود نوازع عدة دفعت نتنياهو إلى حسم وجهة كلمته، بينها اقتناعه بأن ما سيجري على منبر الأمم المتحدة بينه وبين الرئيس الفلسطيني سيكون نوعاً من «صراع الديكة» ورغبته الأكيدة في أن لا يبدو في هذا الصراع متردداً أو متملقاً أو مستجدياً. نتائج انتخابات رئاسة حزب العمل جعلته يشمّ رائحة انتخابات عامة مبكرة، وفي انتخاباتٍ كهذه تتمحور حسابات نتنياهو حول تكريس زعامته على معسكر اليمين في إسرائيل، وبالأخص في مواجهة منافِسِه على هذه الزعامة، أفيغدور ليبرمان. المؤكد أن الأخير يشمّ الرائحة نفسها التي وصلت إلى أنف نتنياهو، ولذلك شعر بأن رئيس الوزراء سرق منه العرض. ليس صدفة أنه لم يصفق مرة واحدة له أثناء إلقائه الكلمة، برغم جلوسه ضمن مقاعد الوفد الإسرائيلي. الأهم في هذا السياق، أن نتنياهو سمح لنفسه بإلقاء خطاب «إسرائيلي داخلي» على منبر المنظمة الدولية نتيجة شعوره بالتحرر من ضرورة مراعاة الرقيب الأميركي. «الخطاب الصهيوني» لباراك أوباما قبل ساعات أفهمه أن الصورة قد انقلبت: بات سيد البيت الأبيض مضطراً إلى محاباة إسرائيل لخطب ود الناخب اليهودي في ضوء انتخابات الرئاسة الأميركية المقتربة.
في هذا الخطاب الداخلي عرض نتنياهو تصوره للصراع مع الفلسطينيين، شارحاً رؤيته لآفاق الحل الذي يؤمن به. قدّم ذلك ضمن إطار أوسع حضرت فيه، كعادة الخطاب الإسرائيلي الرسمي، الرواية التاريخية اليهودية القائمة على عنصري التظلم والحق الديني والتاريخي بـ«أرض إسرائيل»، وحضر أيضاً الموقف التقليدي في توصيف المحيط الإقليمي المعادي لإسرائيل والمتربص بوجودها شرّاً. مدّ نتنياهو في بداية الخطاب يده للسلام مع هذا المحيط المعادي. ديباجة لازمة في أدبيات الخطاب السياسي الإسرائيلي: تكلم سلام وافعل ما تشاء. قال نتنياهو إن إسرائيل تمد يدها للسلام منذ 63 عاماً. صحيح. قبل 63 عاماً أعلن مؤسس الدولة الوليدة، ديفيد بن غوريون، في خطاب الاستقلال مد يده للسلام مع الجوار العربي. فعل ذلك فيما كانت قواته قد فرغت للتو من تهجير 750 ألف فلسطيني من بيوتهم وحكمت عليهم بلجوء خارج وطنهم. كرر نتنياهو موقف تل أبيب العدواني ضد الأمم المتحدة، سالباً منها الصلاحية الأخلاقية للتداول بشأن إسرائيل، مقتبساً الحاخام ميلوفوفيتش، في وصفه لها بـ«بيت الأكاذيب». الجدير بالذكر أن الحاخام المذكور، الذي وقف أتباعه وراء الحملة الانتخابية الأولى لنتنياهو عام 1996رافعين شعار «نتنياهو جيد لليهود»، معروف بمعارضته الحاسمة لأي انسحاب، مهما كان حجمه، من أي منطقة احتلها الجيش الإسرائيلي. أكد نتنياهو أن السلام الذي يسعى إليه يجب أن يكون التوصل إليه عبر المفاوضات المباشرة، ويجب كذلك أن يكون مرتكزاً قبل كل شيء على الأمن. والأمن، بحسب رؤية نتنياهو الاستراتيجية، يرتكز على مراعاة الجغرافيا السياسية لإسرائيل بوصفها «دولة بالغة الصغر» و«تحتاج إلى عمق استراتيجي». وهذا العمق الاستراتيجي يتوافر في الضفة الغربية التي «سنكون مستعدين لقيام دولة فلسطينية فيها» على أن لا تكون استنساخاً لتجربة غزة ولبنان بعد الانسحاب الأحادي منهما. أغفل نتنياهو الإشارة إلى أن الانسحاب المذكور لم يكن خياراً إسرائيلياً ابتدائياً وتنازلاً من أجل السلام، بل نتيجة عجز عن كسر إرادة الشعبين اللبناني والفلسطيني. نوع من تحويل الضرورة إلى فضيلة. في كل الأحوال، الضمانة لعدم تكرار التجربة الغزاوية هي أن الدولة المزمعة يجب أن تكون منزوعة السلاح وفاقدة للقدرة على الاتصال بالعالم إلا عبر الواسطة الإسرائيلية، وذلك خشية من أن يتحول الاتصال المباشر ـــــ برياً كان أو جوياً ـــــ إلى مدخل لتهريب السلاح.
شدد نتنياهو على يهودية إسرائيل، وحدة القدس وأصالة المستوطنات. والأهم أنه رفض النظرية التي ترى أن هناك ربط نزاع بين القضية الفلسطينية والمحور الإقليمي المناهض للغرب، وأن المعبر إلى تفكيك هذا المحور وضربه يمر بحل القضية الفلسطينية. في ما يتعلق بهذه النقطة تحديداً، ثمة من المعلقين الإسرائيليين من رأى أن ما فعله نتنياهو هو شراء بعض الوقت في الطريق إلى الحرب المقبلة.