فجّر خطاب غير مسبوق أدلى به نائب رئيس مجلس الوزراء العراقي، روز نوري شاويس، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، موجة ذعر كبيرة في بلاد الرافدين، عندما أشار فيه إلى أن العراق سيُحرَم من 45 في المئة من مياه أنهاره خلال الأعوام الثلاثة المقبلة. وفي التفاصيل التي وردت في كلمة المسؤول العراقي، نعلم أنّ الكميات الواردة إلى العراق من مياه نهريه دجلة والفرات وروافدهما، والمقدرة حالياً بسبعين مليار متر مكعب، ستنخفض بفعل الإجراءات التي تتخذها الدول المتشاطئة مع العراق إلى أقل من 44 مليار متر مكعب. والدول المتشاطئة مع العراق من حيث قوة تأثيرها على الواقع المائي العراقي هي تركيا أولاً، وقد أنشأت هذه الدولة على روافد النهرين شبكة ضخمة من السدود العملاقة والبحيرات الكبيرة.
ثم تأتي إيران، التي قطعت بدورها عن العراق مياه أكثر من أربعين نهراً ورافداً تصبّ جميعها في نهري دجلة وشط العرب. وقد بلغ الأذى الإيراني مياه الشرب كما حدث مع أهالي خانقين. أما سوريا، فتُتَّهم من الجانب التركي بالاستيلاء على جزء من حصة العراق المائية، وهي تنفّذ حالياً مشروعاً كبيراً لتحويل مياه نهر دجلة، الذي لا يمر في أراضيها إلا عدة كيلومترات، نحو العمق السوري بتمويل سخي من دولة الكويت.
ومع أن الخوف ليس جديداً في هذا المضمار، بما أن عمره أكثر من نصف قرن، إلا أنه تحول إلى ذعر حقيقي وأعطى صدقية قوية لتوقعات متشائمة جداً لمؤسسات دولية، منها «اليونيسف» والمنظمة العالمية للمياه. تلك التوقعات ذهبت إلى أن دجلة والفرات سيزولان من الوجود كنهرين جاريين بحلول سنة 2040 بفعل السدود التركية والمشاريع الإيرانية. المضاعِف للقلق أيضاً هو انعدام أيّ سياسة أو استراتيجيا لدى الحكومة العراقية تواجه بها هذا الخطر الذي يتهدد الكيان العراقي برمّته.
بذلك، يمكن اعتبار أن تطرُّق شاويس إلى هذا الشأن بمثابة أول محاولة تدويل لفظية في هذا المجال. وقد ذكّر شاويس مستمعيه بوجود أكثر من 300 اتفاقية دولية بشأن اقتسام المياه في العالم، توفر أساساً متيناً لأي اتفاقيات أخرى، بما في ذلك المتعلقة بنهري دجلة والفرات، مشيراً إلى أن «العراق حاول، منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، الدخول مع تركيا وسوريا في مفاوضات ثلاثية، بغية التوصل إلى اتفاق يضمن حصص البلدان الثلاثة في مياه النهرين المشتركين، طبقاً لقواعد القانون الدولي والاتفاقيات الثنائية». ولفت شاويس إلى أن تلك المحاولات لم تثمر إلى حدّ الآن في التوصل إلى اتفاق يحدد حصة كل دولة. وقد ختم المسؤول العراقي مداخلته بالقول إن «الحكومة العراقية طلبت من الأمم المتحدة توفير الدعم في بناء قدرة تفاوضية وطنية في مجال المياه الدولية المشتركة، عن طريق ممثل العراق الدائم في الأمم المتحدة». وعن هذا الموضوع، كشف أن «كل ما حصل عليه العراق من الهيئة الدولية لا يتعدى تنظيم ورشة عمل لمدة يومين في أربيل».
خبراء متخصصون في الشأن المائي أوضحوا أنّ هناك عدة بدائل أمام العراق، منها ما يتطلب الجرأة في مواجهة تركيا وغيرها من خلال تدويل الموضوع، وثانياً مقاطعة هذه الدول تجارياً وإيقاف ضخ النفط العراقي عبر أراضيها. كذلك فإن هناك عدداً من الحلول المؤقتة والشاملة لا تريد الحكومة العراقية تفعيلها، منها تطوير مشروع إزالة الملوحة من بحيرة «الثرثار»، وهي خزان مياه عملاق في وسط العراق يستوعب 80 مليار متر مكعب من المياه العذبة، واستكمال بناء سد «بخمة» في إقليم كردستان العراق، الذي يمكن أن يحل جزءاً كبيراً من المشكلة، لأن طاقته الاستيعابية تصل إلى 18 مليار متر مكعب، ومصادر تغذيته هي من داخل العراق. غير أنّ الزعامات الكردية خفضت من هذه الطاقة إلى 8 مليارات متر مكعب فقط، وجعلت أمر البناء مرتبطاً بقرار سياسي منوط بها، مثلما كشف وزير الموارد المائية السابق عبد اللطيف رشيد. وبخصوص هذا السد (بخمة)، نعلم أيضاً أن القيادات الكردية رفضت توسيعه والإسراع في إنجازه لأن الحكومة الاتحادية اشترطت أن تكون تكاليفه من حصة الإقليم الكردي من الموازنة الوطنية، فيما يطالب الأكراد بأن تكون التكاليف من الموازنة الاتحادية، على قاعدة أن فوائده ستعمّ العراق عموماً. وبحسب المتخصّصين، فإنّ وجهة النظر الكردية هذه منطقية وصائبة، حتى إن كثيرين يضيفون أن تمويل حكومة بغداد لهذا المشروع ووضعه تحت الإشراف الاتحادي سيمنعان الطرف الكردي من إمكان استعمال السد ورقة ضغط سياسية مستقبلاً.