في مصر حرب بين الربيع والخريف. الربيع شاب، وغض، لم ينضج بعد، له حماقته وجنونه، بينما الخريف، العاقل الحكيم، عجوز تتشبث أوراقه بالحياة، ولو كان ذلك بقتل الحياة نفسها، أو بإعادة إنتاج العوامل التي أعطته القدرة على البقاء، فمن سينتصر؟

إعادة إنتاج حكم الديكتاتور



عادت مصر إلى انتظار فقرة الساحر. انتظار الحلول تسقط من أعلى. من حيث يجلس حكام مصر، المؤقتون، لكنهم ورثوا نظام عمل يجعل الجالس على الكرسي، صحيح أنها أصبحت طاولة مستديرة يلتف حولها ١٩ شخصاً، لا واحد فقط، يتخيل أنه مدير عموم العناية الإلهية، والسياسة هي وحي أفكاره وتطبيق رسالته التي يبشر بها، أو يحكم باسمها.
فقرة الساحر المنتظرة، ما هي طبيعتها؟ هل سيصدر مثلاً قانون «الغدر» ليمنع الفلول من خوض الانتخابات لتستريح فصائل القوى السياسية القديمة أو الجديدة التي تتعامل بروح أنها قديمة؟ هذه الفصائل تبحث عن كل العدة الجاهزة للانتخابات، تبحث عن أدوار، وعن رضى الجالسين حول الطاولة؟
هذه الفصائل، وهي بالفعل فصائل وليست أحزاباً بالمعنى السياسي، تبحث عن طريقة للوصول إلى تركيبة الحكم قبل الوصول إلى برامجها السياسية أو بناء تنظيماتها. خيالها لا يتجاوز لحظة ٢٠٠٥، حين انفرج جدار نظام مبارك ليعبر منه ٨٨ مقعداً للإخوان، وبعض النسمات على أحزاب مشتاقة.
هل العودة إلى ٢٠٠٥ هي كل أمل ومنى مجتمع عاش في كهف الديكتاتورية سنوات طويلة؟ ماذا سيفعل الساحر بعدما أصابته الشيخوخة بالوهن؟ هل يخاف الساحر النزول عن الخشبة؟ هل لديه فقرة، أم أنه رهن الارتجال؟
فقرة الساحر… الجميع ينظر إلى الأمام، إلى حيث دائرة الضوء على خشبة المسرح، ينتظرون القرارات والخطط بدون برنامج مسبق. هل يمكن أن تكون فقرة الساحر هي النجاح في صنع قائمة موحدة بين كل التيارات والقوى السياسية، بمعنى آخر، أن تتحول الانتخابات إلى مباراة معروفة النتيجة؟ ولماذا تقام؟ ولماذا نسميها انتخابات؟ يمكن أن نسميها مجلساً استشارياً للمرحلة الانتقالية، أو أي تسمية أخرى. لكن لماذا الإصرار على إشكال بلا معنى؟ لماذا التفكير بعقلية الاستعراض القديمة؟ ولماذا التفاخر بما ليس موجوداً: ما يحدث الآن هو إعادة إنتاج ديموقراطية مبارك، وبقوانينه. لجنة الأحزاب توافق على الأحزاب بقوانين وضعها طهاة المطبخ السياسي لمبارك، وقانون للانتخابات أُعد لكي تكون هناك قوة عليا تتحكم في سير العملية.
هذه العقلية ليست سياسية، وعمرها قصير؛ لأنه لا يمكن أن تتحمل المسرحية السخيفة مرتين، إلا إذا كنت محبطاً، والثورة خلقت قوى لا يستهان بفعاليتها من الإحباط القديم، وأسلمتهم إلى توتر وقلق من أن يضيع ٢٥ يناير وسط كل هذا الضباب السياسي. الساحر يظهر إذاً من خلف الضباب، مشهد مثير، لكنه مع شيخوخة الساحر، وثقل الضباب، فإنها مزحة سخيفة أن يتصور أحد مهما كانت قوته أن الروح التي انطلقت في الشوارع يمكن مصادرتها في علب جاهزة مكتوب عليها: هنا كانت الثورة. هذه الروح قلقة الآن. رغم أن هناك تحالفات واسعة لنشر اليأس، بداية من إعلام ينشر الكراهية لروح التغيير الجذرية، إلى تربيطات انتخابية تبحث عن الفلول لكي تضمن النجاح، وبينهما جمهور واسع ينتظر أن تلمسه الثورة ببركتها، لكنه يرى يقظة العناصر القديمة للنظام. يقظة على طريقة «مستر x» الذي لا يموت أبداً.
الضباب ثقيل، ويبدو معبراً عن صراع بين ربيع شاب، لا يملك خبرة، وخريف تتجمع خلف أطلاله كل القوى الخائفة من الاندثار. يتكرر السؤال إذاً: هل هي العودة إلى مبارك؟ هل تحول المجلس العسكري إلى ١٩ مباركاً؟
المجلس أخرج كل الأدوات من خزائن مبارك، وتعامل بها، لا ليجهض الثورة، أو يحولها إلى «انتفاضة» فقط، لكن أساساً ليلغي السياسة. لن يتكرر إلغاء السياسة إلا بفاتورة باهظة من القمع لم تعد مؤسسات الدولة قادرة على دفعها، ولا حتى الاطمئنان إلى نتيجتها الفعالة.
المجلس أخرج حزمة مبارك لأنه لا يعرف غيرها. التسلط لا خيال له.
ماذا يريد المجلس العسكري؟ بالمناسبة، من هم أعضاء المجلس العسكري؟ تقريباً هذه واحدة من المرات النادرة التي لا يعرف شعب فيها شيئاً عن المجلس الذي يحكم: من هم، مواقعهم الاجتماعية، ثقافتهم، تاريخهم، شبكة علاقاتهم، سيرتهم الذاتية والعائلية. لماذا كل هذا الغموض حول مجموعة تحدد الآن مستقبل بلد كامل، ولا أحد يحاسبها.
من يحاسب المجلس العسكري؟ هل هو الشعب؟ هذه خدعة موروثة عن مبارك أيضاً: استعدِ الشعب في الوقت الذي تريد، وأسأله الأسئلة بطريقة تعرف إجابته المتوقعة عنها، ستنال الشرعية، لأنك تملك كل مفاتيح الترويض لشعب لا يزال وعيه محشوراً في نفق الديكتاتورية.
لماذا يريد المجلس العسكري ترويض الشعب؟ هل يريد الاستمرار في الحكم؟ ويحلم بجمهورية عسكرية؟ أم أنه يريد الحفاظ على موقع مؤسسة الجيش في الجمهورية الجديدة؟ لماذا يستخدم المجلس أدوات مبارك، وهو لا يبحث عن الخلود في الجلوس على طاولة الحكم؟ ولماذا كل من يحيط بالمجلس ويبحث عن ديكتاتور يتخفى تحت قناعه الديموقراطي؟ بحثوا عن أرشيف مبارك، وتعاملوا به، إدارات الجامعات كتبت تقارير أمنية في القيادات، ووزير التعليم ذهب إلى المدارس النظيفة بصحبة الكاميرات ليقول إن «كل شيء تمام»، ووزير الإعلام لف ودار في ماسبيرو وخلفه حاشية وجلس أمام الكاميرات ليحكي عن مفخرة الإعلام المصري وريادته في بناء استوديو عالمي. الحكومة خيالها كله من الأرشيف، والمجلس يقود البلد بغموض يثير الرعب.
ماذا يريد المجلس من الثورة؟
المجلس عابر في لحظة عابرة. ولا بد من التواضع قليلاً، وإدراك أن السياسة ليست حصار الثورة وإبعادها عن بناء المستقبل ومحاولة تصنيع شعب عبر رسائل التلفزيون ورشى الانتخابات واللعب على مشاعر قطاعات كبيرة لا تزال ترى في السلطة الأب الحنون. ارتباك المجلس العسكري وإدارة المرحلة الانتقالية كلها، أنتجا فوضى رهيبة أيقظت كل العناصر النائمة لتعيد إنتاج كل عناصر الدولة المتسلطة والديكتاتور الحاكم بأمره. رغبة لا يمكن نجاحها، لكنها تعطل وتثير الذعر من مستقبل يحيطه كل هذا الغموض. لماذا كل هذا الغموض إذا كان المجلس يريد فعلاً دخول التاريخ والعبور بمصر إلى الديموقراطية؟ لماذا تعيدون إنتاج كل أدوات القهر إذا كنتم تريدون الحرية؟ هل يتصور أحد أنه يمكن الضحك على القطاعات المشحونة بروح ثورية وإعادة إنتاج الفرعون الراقد الآن على سريره ببيجامته الزرقاء ويتجول بين المستشفى والقفص؟
الثورة إرادة... مع من إرادتكم؟

■ ■ ■

الإخوان والعيش في «جمهورية الأب»



الإخوان يعانون أزمة منتصف العمر. الجماعة ليست وحدها في الأزمة، لكن لأنها الأقوى والأكثر تنظيماً، تعالج أزمتها بطريقة الهروب إلى الخارج، أي تبحث عن انتصارات متسرعة، وتصنع تحالفات
الثورة كشفت أزمة جماعة «الإخوان» كما لم يحدث طوال أيام مبارك. أزمة يعبّر عنها الدكتور عبد المنعم أبو الفتوح (المنشق عن الجماعة والمرشح المحتمل للرئاسة) في دعوته الجماعة إلى التوقف عن السياسة والتفرغ للدعوة. الأزمة وليدة حقيقة أن ٢٥ يناير كشفت عن قوة الوجه الجديد للإخوان الذي بدأ مع دخول عناصر من طلاب الجامعات أضافوا ملامح جديدة للتنظيم، الذي يعيش بقلب ريفي يؤمن بمبادئ السمع والطاعة.
هذا الوجه له تأثير وجاذبية، لكنه لا يحكم الإخوان، الواقعين تحت سيطرة قيادات عجوزة، ومن يتحالف معها. هم أقرب إلى السلفيين منهم إلى الطبعة الأخيرة من توليفة الإخوان السياسية. الثورة كانت شرخاً في الجماعة؛ لأنها وسعت الهوة بين التيار الشاب بمختلف أطيافه والدائرة العجوز، وإن اختلفت في أعمارها.
الدائرة العجوز سارت على الطريق الذي يضع الجماعة في عربة من عربات نظام «الجمهورية الأبوية». الرئيس بالنسبة إلى الجماعة أب، لا يخلو من قسوة يتعامل معهم بأسلوب الجزرة والعصا، وكانت هذه العلاقة مع مبارك في أفضل أحوالها؛ لأنها وصلت إلى اقتسام السلطة: القصر له والشارع لنا.
قسمة افتراضية، استطاع بها أن يسيطر على المعارضة كلها، من خلال تدجين الأحزاب «الشرعية» في مقارّ تحت حراسة حاملي مفاتيح يحصلون على أوامرهم وخطة حركتهم من جهاز أمن الدولة.
الجماعة وجدت أرضاً مسموحاً بها، احتلتها بما أنها «المحظورة»، الاسم الذي استاثرت به، رغم أنها ليست وحدها الذي ينطبق عليها «حظر العمل السياسي»، لكن الاسم أضاف إلى الجماعة سحر الاضطهاد. ورغم أن الجماعة لم تتحرك سياسياً، واعتمدت أساساً على قوة بناء التنظيم، ورفع شعارات تمنع السياسة مثل «الإسلام هو الحل»، لكنها ظلت طوال حكم مبارك «أقوى تنظيم سياسي معارض في مصر»، بل إنها كونت صورة «المعارضة الوحيدة القادرة على منافسة الحزب الوطني في الحكم».
ولم يكن مستغرباً هنا أن يصدر بيان عن مكتب الإرشاد، قبل الثورة بيومين فقط، يقدم نصائح يمكن أن يتفادى بها نظام مبارك الثورة الشعبية. البيان صدر معبراً عن حالة تماهي مع الجمهورية الأبوية، ودفاعاً عن فكر البطريرك. البطريرك الذي يحكم في قصر الرئاسة، وفي مكتب الإرشاد معاً.
الجماعة تعيش في هامش الأب، لا بعيداً عنه. لذلك، دافعت يوم ٢٣ يناير عن استمرار الجمهورية الأبوية. لم يلتزم الجميع بموقف القلب العجوز، وخرق من تطلق عليهم وسائل الإعلام «شباب الإخوان» حظر مكتب الإرشاد، وشاركوا في اجتماعات الإعداد لـ٢٥يناير، وهنا بدأ الشرخ يتسع رغم كل ذكاء الجماعة وخبرتها القوية في التنظيم، حينما اتخذت قراراً سرياً بالسماح لأعضاء الجماعة بالمشاركة، لكنها مشاركة فردية وتخص كل عضو.
في ٢٨ يناير، ومع وصول الثورة إلى حالة صدام كامل، اتسعت مساحة القرار لتشمل قادة في الجماعة كانت مشاركتهم فعالة، مثل الدكتور محمد البلتاجي. وفي ميدان التحرير عرفت الجماعة لأول مرة العمل المشترك، أدركت أن مهارتها في التنظيم ليست مطلقة، والعيش في الأرض المحظورة ليس سياسة، لكنه وجود يضمن البقاء.
في الميدان اكتشفت المعارضة المدنية أن خروج الإخوان من الكهف لا يعني نهاية السياسة وإلغاء المدنية، لقاء غابت عنه الشعارات المستهلكة، وذابت فيه حواجز كثيرة، عندما ترك الإخوان هوايتهم في اللعب داخل أسوار الحديقة الخلفية للرئيس الأب… وتنازلت المعارضة المدنية عن مخاوفها الجاهزة. شكل الإخوان جهاز أمن الثورة، وحمت الثورة جسم الجماعة من غدر السلطة المعتاد، وبهذه المعادلة انتصرت ٢٥ يناير، وضخت دماءً جديدة كادت تسقط أبوية مكتب الإرشاد باعتبارها امتداداً لسلطة البطاركة من الرئاسة إلى الجماعة.
محامٍ اشتهر بعلاقته بالجماعة الإسلامية قال في كواليس برنامج تلفزيوني: انتظروا الهول الكبير. انزعج الضيوف من نجوم المجتمع المدني، وخاصة عندما تابع المحامي وشرح: «السلفيون… صامتون الآن يراقبون… ولكن إذا أُصرّ على إعلان دستوري جديد… فإنكم سترون ما لم تروه». مرة أخرى نزل الكلام مثل الصاعقة. صحيح أنه لم يكن غريباً كله، لكن الوضوح في التهديد وبهذه الدرجة من الشعور بأن «المعركة الأخيرة» اقتربت، صدم الجميع.
من الممكن أن يكون تهديد المحامي مبالغة مفرطة، وخاصة أن جسوره مع الجماعات الإسلامية السلفية، ليست ممهدة كما توحي الثقة التي يتكلم
بها. لكن الفكرة وراء كلام المحامي هي أن هناك حرباً نصفها معلن، والنصف الآخر غائر أو في منطقة «التقية».
الجماعات الإسلامية والسلفية مختلفة ومتباينة فكرياً ومرجعياً، لكنها تلتقي عند نقطة العداء للدولة الحديثة. الغرض الأساسي الذي تحشد عليه الجماهير الطيبة هو: الدفاع عن الإسلام، خوض الجهاد الكامل لنشر الإسلام، وغيرهما من الرايات النبيلة التي تهدف في النهاية إلى العودة إلى شكل الدولة القديمة المنتشر الآن في دول الخليج.
الدولة الحديثة ليست ضد الدين، لكنها ضد الحكم باسمه أو احتكار التحدث باسمه. والدولة الحديثة نفسها شهدت مراحل في تطورها كان بعضها مستبداً، إلى أن وصلت إلى شكل يمنح كل مواطن الحقوق كاملة بغض النظر عن دينه أو ثقافته أو لونه أو طبقته الاجتماعية، والهدف من السياسة هو تحقيق السعادة للفرد في الحياة.
لم تعد السياسة رحلة إلى الجنة، ولم يعد الحاكم هو موزع صكوك النجاة من النار. هذه الخرافات التي جاءت من أوروبا (العصور الوسطى) تنتشر في زي إسلامي وباسم دولة إسلامية.
إذاً، هناك معركة قادمة بعدما انتهى شهر العسل بين المجلس العسكري والإسلاميين. معركة معادة ومكررة… تبدأ بمحاولة السلطة العسكرية استقطاب الإسلاميين للسيطرة على الشارع لضرب القوى الديموقراطية.
يلتقي العسكر والإسلاميون عند فكرة تقديس الحاكم، يلتقيان إلى حين وإلى اللحظة التي يحاول فيها الإسلاميون الحصول على نصيب من الحكم لا يعرفون أنه لا يمكن أن يقبل العسكر بقوة معنوية أخرى غيرهم ولا يمكنهم الحكم تحت رعاية الفقهاء.