سأنتظرك كل يوم

غريب .. كيف لهذا القدر أن يقف هنا حيث فلسطين حيث أنا .. وانتِ ! صديقتي روزالين.. اكتشافي لغزة لا يختلف عن زيارتك الأولى والوحيدة لغزة . فأنا أتيت الى هنا بعمر ليس ببعيد عن عمري الآن، في الوقت التي زرتِ فيهه غزة بعد اتفاقية « بيع ببيع»، جئت لأكتشف وجوهاً غير الوجوه التي عرفتها في سوريا واليمن والسعودية والأردن والجزائر. استحضرت ذاكرتي القريبة، التي تكون في ذاك اليوم، وبدأت اسرد على نفسي تفاصيل هذا اليوم الذي جئت فيه، وتذكرت مشهداً، فيه آلاف الوجوه التي تنتظر ابناءها وأقاربها هنا.. حتى ان الاحضان والدموع بين من وفدوا ومن انتظروا، لم تنس أن تأخذ قسطاً لا بأس به من المشهد، ذلك المشهد الحزين . نظرت وامعنت النظر في الوجوه الحزينة، تلك الوجوه التي مرت عليها اصابع الزمن. وأخيراً، وجدت شيئاً يخصني داخل الإطار: أبي، الذي كان ينتظرنا أنا وأمي وأخي، ومعه العائلة بكاملها، كلهم كانوا هنا ينتظرون. تكرر مشهد الأحضان ودموع الفرح، لكن بنكهة مختلفة عن سابقتها. بعدها ركبنا الباص. غنوا وهللوا وصفقوا وانا انظر وأبتسم لأشياء لا أعرفها وأكتشفها للتو. كأننا في سياحة، في بلد آخر، في عالم آخر في دنيا سمعت عنها لكني لم اراها من قبل .. في غزة اكتشفت لهجة أخرى غير اللهجة التي اعتاد سمعي أن يسمعها، وهي اللهجة الغزاوية التي لطالما تميزت بالحدة. بدأت أسمع مفردات وكلمات غريبة عني مثل كلمتي «نيلة» و «دغري»، ممدودة تنطقها احدى النساء بصوت عال. اخذت أكتشف اطباقاً جديدة : أكلات غريبة بأسماء أغرب، مثل طبق «السماقية » أو « الرومانية» وحتى « الفقاعية» التي تجدها بالأفراح والمناسبات السعيدة والتعيسة منها، وتوزع على الحارة والاقارب. هل تظنين انك ستحسين بشهية لالتهام طبق اسمه «الفقاعية» ؟ ما علينا، كل هذ جعلني اتعلق بغزة، لا بل انني اصبحت افتخر بكوني من أصل «غزاوي». حواجز حديدية واسمنتية يحرسها جنود عرب واسرائيليون، حواجز وحواجز تُحيط بـِ غ / زّ/ة «المنكوبة» ، غزة هذه المساحة الصغيرة، حاصروها، وخنقوها .. قلنا « عاااااااااادي». دمروها .. قلنا « معلهش» نبني غيرها. منعوا الخبز عنّا قلنا «مناكل طين ». قطعوا الكهربا عنّا قلنا « في موتور». قسمونا .. قلنا «بيعين الله». شلّوا أملنا .. قلنا « معلهش، منخترع أمل غيره » ، أما انو توصل لمرحلة ينقطع فيها الهوا «إي هاي ما حبيتها». كل هذه الأسباب تجعلنا نكره ونحب غزة باللحظة نفسها، اللحظة التي تتفجر فيها كل مآسي «الغزاوي» ، أيضاً تتفجر كل آمال « الغزاوي»، كأنها شيء يشبه الغصّة التي ستذهب سريعا بمجرد أن يشرب الماء. «سهلة كتير ». كل ما اتمنّاه هنا، في هذه المساحة، أن أرى روزالين وأن اخلع هذه الحدود من جذرها وأرميها في البحر . شيء آخر، بعيد عن هذا الضجيج، هو البحر الذي استيقظتِ عليه روزالين .. البحر الذي عرفني وكنت سأغرق لولا القدر والساعة التي اكتب لك بها الآن . البحر الأزرق الكبير الذي لولاه لمات الناس في غزة، فهو يمتد حتى الأفق البعيد، مساحة تبدو للواقف عند الشاطئ كأنها لا تنتهي عند اي حدود، مساحة يشعر بها «الغزاوي » بكبر الأرض رغم صغرها هنا، يجعله يتأمل ويشكو ويبكي ويهرب ويفرح ويحب . في البحر كل هذه المساحة تجعلني أتساءل: لو لم يكن هناك بحر في غزة، فكيف كانت الحياة ستكون برأيك؟ ولو لم يكن هناك بحر هنا ماذا كنا سنرى غير الجدران، والمكعبات الاسمنتية الضخمة التي تحاصرنا حتى في احلامنا . في الصفوف الابتدائية اكتشفت خريطة فلسطين، التي تميزتُ برسمها ع «التكة». كنت ارسمها وأكتب عليها أسماء لم اكن قد سمعتها أصلا: عكا ويافا وحيفا، القدس والمجدل، اريحا والكثير الكثير. سألت ابي ذات يوم عنها أين هي؟ لماذا أكتبها من دون أن أراها؟ اهي في فلسطين؟ أم أن غزة تقع في جزء « فلس» من الاسم، وباقي المدن تتبع لجزء « طين»؟ أذكر جوابه جيداً. حينها قال لي بقسوة واقعية: ستموتين ولن تريها. مات هو ولم يرها، وربما سأتبعه انا ولن اراها. هل ستبقى فلسطين بالنسبة لي حلماً هل هذا صحيح! هل عليّ أن أتدرب على أن أرى وطني بالصور والكلمات التي تزين الخريطة وكأنها بلاد بعيدة لا وصول اليها؟ وما زلت أبتسم.
صديقتي روزالين ..
ربما أنتِ نقطة انطلاقي الى عالم ما زلت أبحث عنه على الخريطة. هي فلسطين الكبيرة، هذا الوطن الضائع فينا، رأيته فيك وفي وطنتيك الغريبة، في لكنتك «الفلاحية » والتفاصيل الصغيرة التي أفتقدها والتي تخلى عنها الكثير من الشباب . سأبقى أغني بصوت عال .. سأبقى انتظر كل يوم أن تضعي على صفحتي اغنية .. ونغني .
سأنتظر اللحظة التي سأراكِ فيها في أم الفحم وحيفا وكل فلسطين، كلها . حتى نلتقي. محبتي
رهام الغزالي ــــ قطاع غزة

*رد على مقالة روزالين الحصري «كل الرسائل لا تصل»