لا شيء يوحي وانت تدخل الى منطقة صبرا بأن شيئا ما سيحصل عما قريب. اصوات الباعة ترتفع كعادتها في محاولة لاستدراج الوافدين من مختلف احياء بيروت للحصول على حاجياتهم بأرخص الاسعار. الشتاء يقترب شيئا فشيئا ومعه تضرب صبرا موعدا مع زائرها الموسمي والمعروف بـ«النهر». و«النهر» هو الاسم الذي يطلقه اهالي صبرا وباعتها على السيل الناتج من الامطار الغزيرة التي «تغمرهم» كل شتاء. فموقع صبرا كسقطة جغرافية بين محيط اكثر ارتفاعا يحوّل نعمة المطر الى نقمة.
فمن الشمال تتدفق المياه من محلة الدنا نزولا الى ساحة صبرا لتلتقي مع روافد اخرى. غرباً، سيلعب الارتفاع النسبي لحي ابو سهل دورا في تدفق المياه لتلتقي في ساحة صبرا مع المياه المتدفقة من محلة ارض جلول غربا.. ليرتفع منسوب المياه في شارع سوق اللحامين الى اقصى درجاته حيث تدلي منطقة المدينة الرياضية بدلوها عبر نزلة مأوى العجزة. هكذا تتدفق المياه باتجاه حرج صبرا (محطة الرحاب) مرورا بالشارع الرئيسي لمخيم شاتيلا ، لتحول حياة السكان وأصحاب المحال التجارية والباعة على بسطات الارصفة او العربات الى كوميديا هزلية مضحكة مبكية في آن يتولى، كل واحد منهم صياغتها على طريقته. اما الطابع العام فالاستسلام لقدر محتوم، مع الاستعداد لوجستياً بأبسط الوسائل على طريقة اسع يا عبد لأسعى معك. فما زالت جزمة عبد الرحمن بائع القهوة المتجول قادرة على الخوض في عباب«النهر» الآتي. يشعل سيجارته مستفيدا من الحديث معنا ليلتقط انفاسه فيخبرنا عن السنوات الطويلة التي اعتاد فيها التجوال في شارع صبرا ومتفرعاته. هكذا تعلم الحلبي القادم من سوريا بحثا عن رزقه التعايش مع المكان وظروفه اللاطبيعية. ولا بد له من شراء البدلة النيلون التي تقيه المطر (تستعمل عادة لسائقي الدراجات النارية). اما زميله في المهنة محمد والقادم من ادلب، فسيتكلف شراء الاثنين معا «في واحد قريبي بيشتغل بسوق اللحمة طلب مني الجزمة، بعوزها بالصيف وعيب ارجع اطلبها». وحين نسأله عن الثمن تبدو الحماسة على وجهه وهو يجيب «بين تمانة للعشر تلاف. اذا بدك البياعين اصحابي بخليهم يظبطلوك السعر». نشكره ثم نتركه بالقرب من مدرسة عمر حمد وننزل باتجاه الساحة. في البداية يبدو اصحاب المحال مرتاحين، فعادة لا تدخل المياه الى محالهم. اما بالقرب من الساحة فالاوضاع مختلفة، فصاحب محل الملابس يترك الزبونة ليحدثنا عن المياه التي تدخل محله بدون استئذان وليس لديه ما يفعل، فبناء بضع حجارة على مدخل المحل سيدخله بمشاكل هو بالغنى عنها. اما الشادر البلاستيكي امام المحل فقد اتلفه الصيف ولا بد من تغيره. في الجهة المقابلة ينشغل ابو هاني بتصليح المكوى الكهربائي وهو يجيبنا بلهجة فلسطينية: «جزمة بلاستيك ونيلون بخمس تالاف (كالذي يستعمل في الخيم البلاستيكية) لنغطي البضاعة. واذا اضطررت رح ارفع البسطة»، يقولها وهو يشير الى سيارته القديمة المعطلة والتي حولها الى معرض للأدوات الكهربائية. اما باسم المرتاح لارتفاع محله لبيع القرطاسية عن مستوى الطريق، فيفكر بتوسيع اعماله «عم فكر اشتري مركب بلاستيك، منو بوصل فيه عالبيت ومنو بنقل فيه الناس، الف ليرة عالشخص مش يابلاش؟ بركي بعدين برجع فيها على حيفا». نقرر مواصلة المسير في خط «النهر»، لكن سيارة قوى الامن الداخلي الموجودة بالقرب من تجمع الداعوق لمراقبة ومنع دخول مواد البناء تستفزنا للدخول الى ذلك التجمع. على المدخل يستقبلنا ياسر في دكانه: «مش ناطرين الشتا، ناطرين مصيبة»، فالتجمع هنا خارج خدمات الأونروا كما هي حال التجمعات الأخرى. هكذا يعاني السكان من طوفان المياه سنويا حيث اقيمت شبكة واحدة للصرف الصحي ومياه الامطار. وبالتالي فإن ازدياد اعداد المنازل بعد ورشة الاعمار الاخيرة سيزيد الوضع سوءا بالتأكيد. يقودنا احد الاطفال عبر زاروب طويل الى منزل «زبيدة ابراهيم» المنخفض عن مستوى الطريق. هنا يتحول المنزل الى بركة مياه، إذ يساهم انبوب الصرف الصحي بإدخال المياه الى المنزل والتي يفترض انه وجد لإخراجها. اما الحل فمستحيل «هيك خبرني مهندس مع وفد اجا يشوف المشاكل عنا. صرنا شايفين ولا عشرين وفد وما حدا عمل شي، صرلنا عشرين سنة على هالحالة». اما في سوق اللحامين فمن السهل اكتشاف الاتربة التي تغلق مصارف المياه. فالشارع هنا هو الحد الفاصل بين بلديتي الغبيري وبيروت التي زار رئيسها بلال حمد المنطقة مع بداية شهر ايلول ليكرر الوعد الذي اطلقه العام الفائت بحل مشكلة الصرف الصحي.. وتدخل بعد الزيارتين سيارات البلدية لاجراء تنظيف روتيني للشبكة لم يفلح العام الفائت في تخفيف كمية المياه المتدفقة في «مسارها التاريخي». تماما كمشروع تأهيل الصرف الصحي الذي نفذ في منطقة بلدية الغبيري العام 2008 بتمويل من الاتحاد الاوروبي والحكومة الألمانية. هكذا سيعمد صاحب محل البهارات القريب من جامع عمر الدنا الى بناء سد من الاحجار الاسمنتية لصد المياه شارحاً «السنة الماضي كنت عامل ارتفاع حجر، ما مشي الحال. هالسنة رح اعمله حجرين». اما في داخل سوق الخضر ذي الارض المرتفعة نسبيا، فسيعمد ابو حسن (غير القلق من «النهر») الى تذويب الفلين من باقي صناديق الخضر لتذويبها واغلاق الفتحات في الواح الزينكو في السقف منعا لتسرب المياه. والزينكو ايضا هو سلاح ربيع، صاحب العربة الصغيرة لبيع القهوة والشاي بالقرب من مدخل مخيم شاتيلا: «كلفني 100 الف ليرة»، يشير الى سقف مصنوع حديثا ليغطي العربة والمكان الذي يقف فيه. اما الجزمة والبدلة الواقية فهما ضروريتان: «بس وقت يلي بيشتغل النهر ما بشتغل، اتخيل ونحنا بهيك حالة يجي واحد يطلب قهوة، ايه والله والله بضربو كفين وبدعس على راسه». اما في الشارع الرئيسي لمخيم لشاتيلا، فمن السهل ملاحظة ارتفاع المحال على جانبي الطريق، فعلى ما يبدو رفع ارضية المحل بالاسمنت أو البلاط هو السبيل الانجع. فيما سيكتفي اصحاب البسطات بتغطية بضاعتهم بالنايلون او التوقف عن العمل في الايام الماطرة. والى حرج صبرا حيث اعتاد «النهر» تقديم «الهدايا» إلى جيران المصب، بعضها ذو فائدة كلوح خشبي هارب من دكان لحام، وبعضها الآخر سيئ كالنفايات. نعود ادراجنا لنعرج على مخيم شاتيلا، حيث انهت وكالة الاونروا العام الفائت مشروعا لتأهيل البنى التحتية. في الشارع الجنوبي للمخيم والمعروف بحي مباني الاونروا، ثمة طوفان يحصل في الساحة التي بني فيها خزان للمياه كجزء من «مشروع التأهيل» بقي فارغا. يؤكد هناك السكان بالتواتر أن المشكلة لم تتنته، فانسداد شبكة الصرف في حي فرحات بين الحين والآخر يرمي بالمياه الى داخل المخيم. وبعيد انتهاء مشروع الاونروا امطرت الدنيا مرتين او ثلاث مرات، فتكررت المشكلة كأن شيئا لم يكن. واللافت ان الشبكة الجديدة تم ربطها بالشبكة الرئيسية التي نفذت العام 2008 من قبل بلدية الغبيري. هكذا تستسلم صبرا لقدرها فتضيع مياه «نهرها» بين القبائل. نهر بدأت بوادره ما ان انهينا جولتنا، بالتكون، كأن مجرد إثارتنا للقضية استسقى السماء، فغادرنا المكان تحت وابل منه.



يذكر اهالي صبرا من اللبنانيين ايام وجود الثورة الفلسطينية في لبنان بحلوها ومرها. الا ان شيئا ما يتفق عليه الجميع بدون استثناء «ايام ابو عمار كنا عايشين بعز». ففي اواخر سبعينيات القرن الماضي قامت المؤسسات التابعة لمنظمة التحرير بتأهيل شبكة الصرف الصحي في المنطقة، مما حل المشكلة جذرياً. الى ان جاءت حرب المخيمات اواسط الثمانينيات، حين عمدت القوى التي حاصرت مخيم شاتيلا الى تدمير الشبكة الواسعة الحجم خشية استعمالها أنفاقاً تؤمن للمحاصرين الدواء والغذاء والسلاح.