حتى لو ثبت أن اقتراح السلطة الفلسطينية التوجه إلى الأمم المتحدة لإعلان الدولة الفلسطينية قد سبق انطلاقة الثورات العربية، إلا أن ذلك لا يعني أن لا علاقة، أو تأثير كبيراً، بين تصميم القيادة الفلسطينية على المضي قدماً في اقتراحها والضغط المتأتّي من هذه الثورات. إن تحليل المواقف والطروحات السياسية، وتحديداً تلك التي تكون مراحل تنفيذها لاحقاً كما هي الخطوة الفلسطينية، لا يقتصر فقط على تسليط الضوء على منطلقاتها الأساسية الابتدائية وجوانبها التاريخية، فذلك جزء من حقيقة خلفياتها وأبعادها. الخطوة الفلسطينية ترتبط أيضاً، على نحو أساسي، بالظروف القائمة لحظة الشروع في موعد تنفيذها، وخصوصاً أن المدة الزمنية التي تفصل بين بلورة الاقتراح وإعلانه، وموعد التنفيذ، طويلة نسبياً.. من هنا، يمكن القول إن الثورات العربية، كظروف ضاغطة على السلطة الفلسطينية، كانت أحد أهم الأسباب التي دفعت الرئيس الفلسطيني محمود عباس إلى التمسك بخطوة إعلان الدولة، حتى بعدما تبيّن له مستوى الصدّ المتوقّع أميركياً وغربياً حيال الخطوة. بالطبع، لا جدال في أن لجوء السلطة الفلسطينية ابتداءً إلى قرار التوجه إلى الأمم المتحدة لم يأت إلا بعد انسداد أفق التسوية مع إسرائيل، وسقوط كل الرهانات على محاولة التوصل إلى اتفاق نهائي بشأن كافة القضايا الجوهرية العالقة بين إسرائيل والسلطة. وكان لفشل الرهانات الكبيرة التي عُقدت على الرئيس الأميركي باراك أوباما، منذ اللحظة التي أعلن فوزه في الانتخابات الرئاسية الأميركية، فعلها الفاعل في التأثير على القرار الفلسطيني، إذ إن واقع اليأس من إمكان تحريك ملف التسوية جعل أنصار الخيار التسووي في وضع حرج جداً، بين إمكان المراوحة بما يعنيه من تسريع لتآكل إضافي في صدقية هذا الخيار لدى الجمهور الفلسطيني لمصلحة الخيار المقاوم، وبين الإعلان الرسمي عن فشل نهج المفاوضات، وبالتالي انهيار كل المنظومة التي بُنيت على أساسها السلطة.
لكن ما دامت الرؤية والنهج الممسكان برئيس السلطة الفلسطينية، واللذان يحرّكان مواقفه وحراكه، يقضيان بأن لا بديل من المفاوضات مع المحتل إلا المفاوضات مع المحتل، كان لزاماً عليه، تحت تهديد سقوط الرؤية والنهج، أن يعمد إلى خطوة صادمة، دون اللجوء بالتأكيد إلى خيار المقاومة، مع الأمل بأن تؤدي إلى تراكض الوفود الأميركية والأوروبية إلى رام الله. إلا أن المشكلة الفعلية هي أن من الصعوبة بمكان تصديق هذه الأطراف لأي تهديد أو تلويح تبادر إليه القيادة الحالية للسلطة، لأسباب لا تخفى على أحد.
في كل الأحوال، من الجدير التذكير بأن رئيس السلطة كان يربط خطوة التوجه إلى الأمم المتحدة بشرط لاغ لفاعليتها، وهو توافر بدائل، من ضمنها عروض محدَّدة تسمح له باستئناف المفاوضات على الأسس السابقة نفسها. الشرط اللاغي كان واضحاً ومبيّناً للنيّات الابتدائية الكامنة وراء الخطوة. من هنا كان رهان عدد من المحللين والخبراء في الشأن الفلسطيني على أن عباس سيرضخ في نهاية المطاف للضغوط، على الأقل استناداً إلى بعض السوابق، منها أنه من الأَوْلى لمن حاول تمييع تقرير غولدستون الذي فضح جرائم إسرائيل خلال عدوانها على قطاع غزة عام 2009، من خلال طلب عباس تأجيل مناقشته في الأمم المتحدة بناءً على الضغوط الأميركية، أن يتلقف أي طرح أو وعد بخصوص المفاوضات، وسحب الخطوة الفلسطينية من الأمم المتحدة.
لكن الثورات العربية وتداعياتها الضاغطة كانت الظرف اللاحق الذي أمسك بالقرار الفلسطيني. ويمكن القول إن خطوة الدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة باتت رهينة ظروفها الحالية كما هي رهينة منطلقاتها الأساسية، أي بين أن تكون أداة دفع للمفاوضات قدماً، مع الاستعداد للتخلي عنها في ظرف طرح تفاوضي معقول وممكن تسويقه لدى الجمهور الفلسطيني، حتى وإن كان نظرياً افتراضياً، وبين أن تكون محاولة احتواء لتنامي الغضب في الشارع الفلسطيني الذي يتغذى بحركة الشارع العربي.
إلا أن نقطة الضعف الأساسية في توجه قيادة السلطة الفلسطينية أن خلفياتها وماهية مقاربتها حاضرة لدى الجانبين الإسرائيلي والأميركي، وبالتالي يدركان مسبقاً ضيق هامش المناورة المتوافرة أمام رئيس السلطة، وأيضاً محدودية الخيارات التي حبس عباس نفسه داخلها.
في المقابل، كان بإمكان السلطة الفلسطينية أن تراجع خياراتها العقيمة، وتنضم إلى الحراك الشعبي العربي، لا أن تخشاه، إذ كان بإمكانها أن تجعل الرفض الإسرائيلي والأميركي محطة للانضمام إلى شعبها والتحرك لانتزاع الحقوق بالقوة الشعبية الغاضبة، حيث ستجاريها أيضاً الساحات العربية التي تخشاها واشنطن كثيراً في هذه المرحلة. إلا أن السلطة فضَّلت توجيه رسالة طمأنة إلى البيت الأبيض والحكومة الإسرائيلية، بالقول إن الخطوة الفلسطينية في الأمم المتحدة لم تكن إلا لخدمة المفاوضات نفسها. وبدلاً من أن يكون إعلان الدولة تعبيراً عن خيار استراتيجي بديل، تحول إلى عملية تكتيكية فرضتها الظروف. فإذا كانت واشنطن وتل أبيب تطمئنان إلى المرحلة التي تلي إعلان الدولة أو رفض إعلانها، فمن الطبيعي أن نشهد تحول الرئيس الأميركي باراك أوباما إلى سفير لإسرائيل في الأمم المتحدة.. ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في موقع من يضع السقوف السياسية والإصرار على الشروط التي تُفرغ أي تفاوض من مضمونه.
في كل الأحوال، ما دام السقف السياسي للسلطة منخفضاً، ويتمحور حول قاعدة أن لا بديل عن المفاوضات إلا المفاوضات، فستبقى إسرائيل تشعر بأنها في موقع من يملي الشروط، ويحدد حدود الحراك السياسي مع السلطة.