دمشق | في شارع العابد، الشارع الدمشقي الممتد من ساحة السبع بحرات، وصولاً إلى البرلمان السوري، هناك برلمان من نوع آخر، هو عبارة عن مقهى الروضة، الذي يدلل عليه السوريون على أنه برلمان الثقافة المصغر، أو ملتقى الأدباء والفنانين ورجال السياسة وبعض رموز المعارضة أحياناً. بالقرب من المقهى، يقف عادل أمام أقدم بسطة صحف في دمشق، كان يملكها والده منذ سنة 1929.
يفتح بائع الصحف حوارات سريعة مع المارة، ومنهم شخصيات سورية مرموقة، تعبر لتشتري الصحف قبل دخولها إلى المقهى. عادل كان قد خبر العمل السياسي منذ أن جعلت منه الحياة مثقفاً رغماً عنه، بعدما أمضى عقوداً طويلة بجانب بسطة كتبه، يقرأ ويتابع أهم الأحداث على الساحة العربية، إضافة إلى انتسابه للحزب القومي السوري وتبادله التحية مع رفاقه علناً (تحيا سوريا).
بسطة الكتب هذه هي الاستراحة الأولى لمعظم نزلاء المقهى اليوميين، بعد ذلك لا بد من وقفة أو سلام عابر على (أبو حالوب) الذي يخبئ تحت طاولته دائماً أمانات يتركها زبائن المقهى لبعضهم عند الرجل العراقي الذي أرسله والده إلى الاتحاد السوفياتي سنة 1975 للتخصص في الطباعة وفرز الألوان، فعاد بطريقة يلفّها الغموض إلى العراق من دون أن يتعلم شيئاً، ثم سافر إلى دمشق وانتهى به المطاف بعد زمن من التنقل بين الأعمال الحرة إلى مقهى الروضة ليمتهن الدوام على طاولته الخاصة منذ الثامنة صباحاً حتى العاشرة ليلاً. يمكنه أن يعرف عنوان أي عراقي قدم إلى سوريا وأن يحتفظ بأمانة ما لصديق بعيد إلى حين عودته، كذلك يعرف كيف يرد التحية على معظم رواد المقهى، وكل باسمه.
البرلمان الدمشقي تحول منذ بداية الأحداث الاحتجاجية في سوريا إلى برلمان حقيقي، تجتمع فيه كل شرائح الشعب السوري من صغار الموظفين الباحثين عن فسحة تنأى بهم بعيداً عن الروتين والرتابة القاتلة لحياتهم، مروراً بالصحافيين الذين يداومون في المقهى بقصد العمل والتقاط الأخبار الفنية وإجراء اللقاءات الصحافية، والفنانين والكتاب الذين يديرون دفة حوارات هامة، وصولاً إلى بعض المتعاملين مع الأجهزة الأمنية الذين ينصتون جيداً لكل الأحاديث. وأيضاً لا يخلو الأمر من بعض الضباط المتقاعدين وقادة الأمن السابقين، وحتى أعضاء مجلس الشعب. الأخيرون يظهرون بكل وضوح أنهم من طبقة المسؤولين التي تترفع عن التعامل اللطيف مع الشعب، فالصوت العالي ونبرة الأمر الحازمة للنادل هما الميزتان اللتان تكشفان أنهم أعضاء مجلس شعب، أو تجار وصلوا إلى البرلمان بطرق عدة، باستثناء اختيار الشعب الحر لهم.
هكذا، ضمن هذا النسيج الاجتماعي المتشابك في مكان واحد، لا بد أن تجد مراهقين بدأوا للتو التعلم على سحب دخان الأركيلة ونفخه في الهواء، كما يفعل الكثير من رواد المقهى وكأنها الطريقة المثلى لنفخ شيء من القهر والقلق اللذين تعتمل بهما قلوب السوريين هذه الأيام. كذلك سنجد طاولات عليها مجموعات من المتخرجين الجدد للمعهد العالي للفنون المسرحية، الذين يبحثون عن فرصة تمثيل مناسبة في المقهى، طالما أنه ملاذ المتخرجين الشباب.
ظاهرياً، يبدو الشكل العام للمقهى كغيره من المقاهي الشعبية المعروفة؛ الكل يلعب الورق، بينما يطغى صوت حجر النرد على أي صوت آخر، مع تثبيت الشاشات الكبيرة على محطات رياضية أو سورية حصراً، لكن لن يجدي ذلك نفعاً طالما أن الأحاديث الطويلة والنقاشات الهامة هي ذات طابع سياسي جريء، إضافة إلى حوارات بنّاءة يقدم من خلالها السوريون اقتراحاتهم للخروج من الأزمة، ومنهم من يخطط بدلاً من حكومته وبرلمانه، والكثيرون كانوا يخرجون من المقهى باقتناعات مختلفة، أو بعد عراكات تصل إلى التشابك بالأيدي في بعض الأحيان. لكن رغم كل ذلك، تعبّر عيّنة غنية من الشعب السوري، وهم رواد المقهى، عن فهمها للعبة السياسية وتقديرها الحقيقي للموقف، وإن كان ذلك بأشكال مختلفة ومتباينة من حيث درجة الوعي والفهم لخفايا الأمور.
نجم المقهى وأكثر الأشخاص منطقية وواقعية فيه هو النجم السوري جمال سليمان، الذي يرفع صوته في حديثه مع «الأخبار» ليحكي عن ميزة المقهى وكيف تدار السياسة فيه وتتخذ قرارات واقتراحات ربما تبقى مكانها، لكن لا لمناص لأحد إلا بالاعتراف بأهميتها. هكذا يجد سفير الدراما السورية إلى العالم العربي في مقهى الروضة الدمشقي خاصية متفردة تميزه عن بقية المقاهي «كونه مكاناً يحتوى يومياً على جميع أطياف المجتمع السوري، من التجار الكبار والصغار، أطباء، مهندسين، سياسيين وضباط متقاعدين، عاطلين من العمل، وبعض الشخصيات التي كان لها تاريخ في الانقلابات في سوريا في خمسينيات القرن الماضي، وفنانين، وأيضاً هناك مخبرون للأجهزة الأمنية»، هذا ما يحول مقهى الروضة حسب وجهة نظر سليمان، إلى مكان حقيقي للحوار الذي يعبر عن نبض الشارع. «جولة قصيرة على طاولات المقهى، يمكنك أن تستمع فيها، إلى حوارات ونقاشات مختلفة، تلخص إلى حد ما نبض المجتمع السوري، ونظرته إلى الأزمة التي يعيشها الآن، بوجهات نظر مختلفة». لا يتوقف الأمر عند الحوارات والنقاشات بين مرتادي المقهى، بل يمكن أن يحدث تبادل للخبرات والمعارف ووجهات النظر، «يمكن تشبيه مقهى الروضة بالبرلمان السوري المصغر، لكن قراراته التي تصدر، تبقى في مكانها لا تجد لها فرصة حقيقية للتنفيذ».
بالمقارنة البسيطة مع جلسات الحوار الوطني التي عمل على إقامتها النظام، في الفترة القريبة الماضية، وبين الحوارات التي تجري في الروضة، من حيث العفوية والصدقية وطريقة الطرح والمناقشة، يخرج سليمان بالفكرة التالية «في جميع بلدان العالم، هناك مقاهٍ تتميز عن غيرها بأنها شهدت انطلاقة حركات فلسفية فكرية، أو فنية أو سياسية، على سبيل المثال في السينما الفرنسية خرجت مدرسة الواقعية الجديدة، من المقاهي الباريسية. هناك العديد من المقاهي في العالم تتباهى بطابعها التاريخي، عندما كان يجلس فيها كبار الفنانين والفلاسفة والمبدعين. المقاهي بالمجمل تمثّل جزءاً من تاريخ البلدان التي توجد فيها. دعنا نتذكر مقهى الهافانا الدمشقي، الذي شهد في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، صعود ونشوء مجمل الحركات السياسية المعاصرة في سوريا». ويضيف «ما يدور في مقهى الروضة الآن، يلخص إلى حد قريب جداً، مجمل ما يدور في سوريا من حوارات ونقاشات ومماحكات، أبرزها الآن، هو الأزمة السورية المستمرة منذ أكثر من 6 أشهر. المقاهي عادة تكون مهمتها غير المعلنة بصورة مباشرة النقاش الحر غير المقيد الذي يسبق بالضرورة النقاش الرسمي، هذا النقاش يتميز عن غيره بالعفوية والانسيابية، عندما تستطيع أن تدخل في أوله أو منتصفه وحتى آخره، عندما تنتقل من طاولة إلى أخرى. المقاهي في المدن والعواصم ليست أماكن لاحتساء المشروبات، بل هي جزء من الذاكرة والروح والحياة والتفاعل الاجتماعي التي تميز كل مدينة عن غيرها». وأكد سليمان أن ما يقال في مقاهي المثقفين، وما يدور من أحاديث وسجالات في مقهى الروضة، يتميز بالجرأة والصراحة أكثر بكثير من جميع ما يكتبه الصحافيون، أو يصرح به الفنانون والمبدعون وغيرهم في مجمل تصاريحهم الإعلامية، وبرر ذلك بقوله «ما يميز جميع من يرتادون مقهى الروضة هو العفوية والتلقائية المفرطة في كثير من الأحيان».
وعن الخلافات والمشادات الكلامية وتطورها إلى حد التشابك بالأيدي التي شهدها مقهى الروضة في الآونة الأخيرة، نتيجة خلاف في وجهات النظر بين مرتاديه، في ما يتعلق بالأزمة السورية، والانشقاق الحاصل في المجتمع السوري، بين مؤيد للنظام ومناهض له، قال «أرى أن مجمل هذه المشادات والاختلافات في وجهات النظر، التي حدثت في المقهى والتي وصلت إلى حد العراك بالأيدي، هي حالة صحية وطبيعية، فالمجتمع السوري بمختلف أطيافه يعيش الآن حالة مخاض جديدة، وهذه الحالة استحقاق لا بد من حدوثه، لكنه صعب وعسير في الوقت نفسه، وهذا المخاض لا يرتبط بالضرورة بلغة العقل دائماً، إنما هناك جانب من الغرائز العنيفة ربما والمشاعر الجياشة، ولدى عموم السوريين خوف واضح من الغد الآتي، مع أنهم يريدون التغيير ويحلمون به منذ مدة ليست بقريبة، والرغبة في الانتقال إلى علاقة جديدة تربط المواطن مع الدولة، كل هذا انتقل إلى أذهان الناس ونقاشاتهم أينما وجدوا، والدليل هو الحراك الشعبي في الشارع، هذا لا ينفي وجود تأثيرات وعوامل خارجية، مثل ما حدث في الثورتين التونسية والمصرية اللتين ألقتا بظلالهما على الشارع السوري، لكن الحراك الشعبي في سوريا لم يأت من فراغ، فالتسارع الكبير للأحداث في الشارع والعدد الكبير للشهداء، سواء من المدنيين أو قوات الجيش والأمن، كل هذا ألقى بظلاله على آلية تفكير المواطن السوري، مهما كان توجهه الفكري أو طبيعته الاجتماعية والمهنية، وبات يعبر عما يدور في ذهنه بطرق مختلفة، قد تصل الى حد الشجار والمهاترات في بعض الأحيان».
عضو مجلس الشعب، الذي رفض ذكر اسمه نظراً الى دقة الظرف، يرى أن مقهى الروضة متنفس فعليّ، ويقول إن أول مكان يقصده بعد خروجه من جلسات المجلس هو مقهى الروضة. «في هذا المكان، أشعر بأنني أتنفس من دون رقابة، أستمع الى آراء الناس من دون تكلف وأعبّر عن رأيي مع أصحابي وأصدقائي من دون إحساس بأنني سوف أحاسب على كلامي، فهنا أتحرر من عبء الواجب الرسمي». ويعبر عن سروره في أن الأزمة أتاحت فسحة جديدة من الحرية خلقت تناغماً بين منبر مجلس الشعب ومنبر مقهى الروضة، حتى إن بعض أعضاء مجلس الشعب صاروا يبزون رواد الروضة في شجاعتهم. وهو في هذا الإطار لا ينكر أن مقهى الروضة لطالما كان نوعاً من سلطة الرقابة الخفية من بعيد على أعمال مجلس الشعب، فرواده هم من خليط اجتماعي وسياسي واسع ويعبرون عن أمزجة متعددة، وبالتالي هم مرآة للمجتمع السوري تنعكس من خلالهم صورة الحياة السورية بدون تزويق أو رتوش.
السياسي المتقاعد م. ع. يرى أن اختيار الروضة من طرف نخب سياسية وثقافية معارضة ليس مصادفة، إن هؤلاء يخامرهم نزوع الى أنه البرلمان الموازي الذي يعبر عن الشارع، فرواده يأتون من أوساط مختلفة ويعبرون عن مواقفهم بتجرد تام، فيما معظم أعضاء مجلس الشعب تتحكم بانتخابهم اعتبارات تخص الحكم، لذا فإن معظمهم يبقون أسرى هذه الاعتبارات. ويقول إن الفارق بين عضو مجلس الشعب ومرتاد مقهى الروضة من السياسيين هو أن مواقف الأول تنطلق من حسابات الكرسي، فيما الثاني متحرر من ذلك ولا يراعي غير المصلحة العامة. ويقول: تبيّنت هذه المعادلة أكثر خلال الأزمة الأخيرة، فقد بدا مجلس الشعب غائباً، بينما ازدهر برلمان الروضة وتحول الى ساحة حوار فعلية.
أما السيناريست الشاب عثمان جحا، الذي يعتبر مقهى الروضة البرلمان الثقافي في سوريا، فيغير قليلاً من رأيه ليطلق عليه الآن برلماناً سياسياً بامتياز، ويقول لـ«الأخبار» «في الفترة الماضية، ومع بداية الأحداث السورية المتسارعة جداً، أصبحت الحوارات السياسية المتعلقة بالأحداث الشغل الشاغل لمجمل مرتادي المقهى، ووصلت في العديد من الأحيان إلى حد العراك بالأيدي، هذا ما اعتبره انعكاساً مباشراً دون تجميل أو مواربة لنبض الشارع السوري، الذي يعيش جملة من التناقضات، لكني أراها في الوقت نفسه فسحة من الحرية حتى تقول ما تريد للناس، لأننا جميعاً جزء من هذه الحراك شئنا أو أبينا». وأضاف إن مجمل ما يدور في مقهى الروضة ما هو إلا الحوار الحقيقي الذي يريده الشارع السوري «لو كنت تجد حواراً شفافاً أو صريحاً وتلقائياً في مكان آخر، سواء كان يقام تحت مظلة النظام أو المعارضة أو غيرها، لما وجدت هذه الحدّة والعفوية في نقاشات المثقفين والفنانين وغيرهم هنا، التي تصل في كثير من الأحيان إلى بناء مواقف سياسية أو فكرية ستعلق طويلاً في الذاكرة، لأن المواقف السياسية تعمر طويلاً أكثر مما تعمر المواقف الأخلاقية».
ويرى جحا أن مقهى الروضة وغيره من المقاهي وأماكن التجمع المشابهة، تسهم إلى حد كبير في خلق جيل جديد مهتم جداً ومتابع للشأن السياسي، «هناك فئة من الشباب باتت ترتاد المقهى، وتتحدث في الشؤون السياسية، وتتناقش في وجهات نظرها، متلاقية كانت أو مختلفة، هذا لم يكن موجوداً أو ملاحظاً بوضوح قبل بداية الأحداث. ربما هذه التجمعات والنقاشات، ستسهم في خلق جيل جديد، وإذا أطلقت له الحريات، ربما سيخلق جيلاً جديداً متحرراً، يدرك تماماً ما له وما عليه».



المناصب خارجاً

استثناءات بسيطة تصطحب هالة المناصب الرسمية معها إلى المقهى، لكن الغالبية يتركون مناصبهم جانباً بمجرد دخولهم الى مكانهم المفضل، هكذا الحال مع نائب رئيس اتحاد الصحافيين السوريين، مدير تحرير جريدة الثورة، مصطفى المقداد، الذي يداوم في المقهى لأنه بحسب تصريحه لـ«الأخبار» «حالة مصغرة عن سوريا كلها، وخاصة الجانبين السياسي والثقافي، من الطبيعي إذاً أن يكون مكاناً استثنائياً لتلاقي جميع الأفكار، وفسحة للتعرف على وجهات النظر والاقتناعات المختلفة، هذا الواقع لمقهى الروضة غير مرتبط بالضرورة بالأحداث السورية الأخيرة، إنما هو قديم قدم المكان نفسه، أنا أرتاد مقهى الروضة منذ 4 عقود، دائماً كنت أراه هكذا.» وتوقع المقداد أن يمثّل مقهى الروضة ورواده دوراً هاماً ومختلفاً مع بداية الأحداث: «كنت أتوقع أن يتحول جانب أو زاوية من مقهى الروضة إلى فسحة للنقاش وتداول الأحداث، بحسّ عالٍ من المسؤولية، من المثقفين والفنانين السوريين، الذين أكاد أجزم بأنهم جميعاً، من دون استثناء، حريصون على وحدة سوريا وسلامة شعبها من الأذى».