يمتاز ميشيل كيلو من بين أقرانه السوريين في الفضاء السياسي بأنه حاضر في المشهد على الدوام. ولا يستطيع أحد أن يمر على تاريخ الحركة السياسية في سوريا منذ الستينيات من دون أن تستوقفه تجربة هذا الرجل الذي يتمتع بنبل استثنائي في التعاطي مع الشأن العام، وطاقة متجددة أمدته بقدرة على البقاء رغم كل الرياح التي عصفت بهذا البلد طوال نصف قرن.
تاريخ كيلو هو تكثيف حي ودقيق لمسار المعارضة السورية بأبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية، وتجربته تتقاطع في صورة واضحة مع الخط البياني لحركة المجتمع السوري منذ تسلم حزب البعث السلطة سنة 1963. ماركسي وعروبي، إصلاحي وجذري، وسطي ومتطرف، مناور ومبدئي. يعيش داخل السياسة بمعناها الكلاسيكي ويحيا تمظهراتها وتقلباتها من موقع المثقف العضوي الذي ميزه غرامشي عن بقية أصناف المثقفين، من خلال اعتناقه لثقافة المعنى. صاحب دور لا يجلس في برج عال ليراقب الشارع، يسير أمام الجماهير ماداً لها يده كما يقول بريخت. ومن بين قطاع واسع من المثقفين السوريين الكبار، انحاز كيلو إلى السياسة ببعدها اليومي، ولم يعتكف بعيداً ليتفرغ للتنظير، رغم أنه لا يقل جدارة عن رفاق مفكرين عاصرهم وعايشهم وصادقهم مثل ياسين الحافظ وإلياس مرقص. لذا، بقي أقرب إلى محترف السياسة بمعناها السياسي المباشر من أمثال رياض الترك، رغم أنه لم يمكث طويلاً في تجربة العمل الحزبي، حيث بدأ مشواره شيوعياً، ومن ثم انتقل إلى الضفة الأوسع التي تكونت بفضل عملية التحول والنقد والمراجعة التي قام بها الترك للحركة الشيوعية السورية الرسمية، وأدت إلى انشقاق الحزب الشيوعي السوري إلى حزبين: التيار الأول ظل سوفياتياً وقريباً من السلطة يقوده خالد بكداش، والتيار الثاني عربي قاده رياض الترك، وانخرط في صف المعارضة الجذرية منذ سنة 1973 حينما رفض المشاركة في «الجبهة الوطنية التقدمية» التي ألّفها النظام من عدة أحزاب بقيادة حزب البعث الذي خولته المادة الثامنة في الدستور «قيادة الدولة والمجتمع».
كلما تأزم الوضع السوري، كان موقف كيلو جديراً بالنظر ومحط اهتمام، لأنه «باروميتر» لمن يريد أن يقرأ درجة حرارة ومستوى الضغط لدى السلطة والمعارضة على السواء. اعتادت السلطة اعتقاله في كل مرة شعرت فيها بأنه تجاوز الحدود، أما هو فقد درج على الذهاب نحو الحد الأقصى كلما رأى أن اللحظة السياسية تقتضي المواجهة. وهنا يجدر التوقف أمام مشهدين رئيسيين في تجربة كيلو: الأول هو اعتقال كيلو في غمرة مواجهة السلطة مع الإخوان المسلمين في نهاية السبعينيات ومطلع الثمانينيات، وفي حينها لم تتورع الأجهزة الأمنية عن نسبه إلى الإخوان المسلمين. ولمن لا يعرف تاريخ تلك الحقبة، كان ذنب كيلو الرئيسي هو صرخته الشهيرة بأن «الوطن في خطر»، وكان رأيه أن مصدر الخطر يأتي من طرف السلطة أولاً، لأنها مارست لعبة العنف. وغني عن القول أن السلطة كانت تنتظر منه موقفاً يدين الإخوان المسلمين فقط. والمشهد الثاني هو اعتقاله في سنة 2006، وبررت السلطة سجنه لمدة ثلاث سنوات على خلفية توقيعه لبيان «إعلان دمشق بيروت» الذي صدر في أيار 2006، ممهوراً بتوقيع مجموعة من المثقفين السوريين واللبنانيين، وحمل نظرة مشتركة إلى نوعية العلاقات بين الشعبين السوري واللبناني، التي ساءت كثيراً بعد اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. وفي حقيقة الأمر، لم يكن ذلك هو السبب الوحيد لاعتقاله، وربما كان القطرة التي جعلت الكأس يطفح، والسبب هو مواقفه بعد ختم تجربة «ربيع دمشق» بالشمع الأحمر سنة 2000، وثارت السلطة على كيلو على أثر نشره لمقال في 2006 تحت عنوان «نعوات طائفية»، جرى النظر إليه على أنه تحريض طائفي، وانعكس ذلك من خلال الردود والانتقادات التي نالها من طرف كتاب الحكم، وكلها دارت من حول رمي كيلو بتهمة الطائفية التي وجدت لها السلطة صيغة غريبة «إضعاف الشعور القومي والنيل من هيبة الدولة وإثارة النعرات المذهبية».
كيلو، وفي مقالة له بعنوان «قصة اعتقالي واتهامي»، كتبها وهو في السجن يقول: «واليوم، وبعد سبعة أشهر على وجودي في السجن، أراني أتساءل: هل صحيح أنه تم توقيفي بسبب إعلان دمشق بيروت، لا، ليس إعلان بيروت/ دمشق سبب اعتقالي. هذه قناعتي... وإذا كان هناك من يريد الانتقام مني...؛ فإنني أتفهم موقفه وإن لم أقبله، مع رجاء أوجهه إليه هو أن يمتنع عن وضعه تحت حيثية القانون والقضاء، كي لا يقوض القليل الذي بقي لهما من مكانة ودور».
الجانب القاسي من تلك التجربة يتمثل في أن كيلو جرت محاكمته أمام المحكمة العسكرية. وفي أيار 2007 أصدرت عليه حكماً بالسجن لمدة ثلاثة أعوام بعد إدانته بـ«نشر أخبار كاذبة وإضعاف الشعور القومي والتحريض على التفرقة الطائفية».
الطائفية هي المحرم الذي لا يمكن اتهام ميشيل كيلو بالوقوع في إغراءاته المبتذلة، ومن يعرف تاريخ الرجل يشهد له بأنه أبعد ما يكون عن ذلك، فهو تربى في بيت شيوعي ستاليني، وعاش حياته السياسية والفكرية وسط عالم العلمانيين والعروبيين وحتى الإسلاميين المتنورين والمعتدلين، ولأن هذه المسألة أثارت حساسية كيلو على الدوام ونظر إليها من زاوية السياسي العقلاني والمعارض الوطني التقدمي، فإنه دخل في جدل في الآونة الأخيرة مع الأطروحة التي علا صوتها، حول الخطر المزعوم الذي ينتظر مسيحيي الشرق في حال سقوط النظام السوري، الذي قدمه البعض حامياً للأقليات.
يجدر هنا تمييز عدة مواقف لكيلو: الأول هو رده على تهافت الاطروحة؛ لأن النظام يدعي العلمانية من جهة، ومن جهة ثانية يعيب كيلو على بعض المسيحيين في سوريا وخارجها، أن يميزوا أنفسهم على نحو يضعهم على مسافة من بقية أشقائهم في بقية الطوائف الأخرى. وما يسند رأي كيلو هو أن المسيحيين لم يعانوا تمييزاً سلبياً خاصاً عبر تاريخ سوريا الحديث، رغم حصول هزات وانقلابات ومواجهات أهلية، وما نال بقية السوريين وقع عليهم. والثاني أن المسيحية الشرقية ترتكب خطأً قاتلاً في انفكاكها عن «الجماعة التاريخية» على حد تعبيره. وشرح كيلو هذه الأطروحة في مقال نشره في الآونة الأخيرة وأثار عليه حملة من النقد من طرف بعض الأقلام التي تقف في المعسكر الآخر. ودعا كيلو إلى «رد المسيحية إلى مكانها الصحيح من مجتمعاتها». ورأى أن واجب المسيحيين أن يبادروا إلى فتح هذا النقاش أو عقد مؤتمر يضم ممثلين عنهم يلتقون في بيـروت أو القاهرة، «يتدارسون خلاله كل ما هو ضروري لرد المسيحية إلى موقعها التاريخي كجزء من المجتمع العربي/ الإسلامي، يخوض معاركه ويشاركه مصيره، يفرح لفرحه ويحزن لحزنه، ويرفض اعتبار نفسه جزءاً من سلطاته أو خادماً لديها، فيتقاسم مع مواطنيه أقدارهم، سهلة كانت أو صعبة. بغير ذلك، لن تبقى المسيحية في هذه المنطقة، وسيكون مصيرهم كمصير النظم التي يخدمونها: على كف عفريت، وخاصة إن انتصرت بالفعل جماعات الإسلام السياسي المتطرفة».
والموقف الثالث تجلى في رد كيلو على تصريحات بطريرك الموارنة بشارة الراعي من باريس، حيث رأى أنه وضع المسألة في «سياق خاطئ»، واصفاً موقفه بـ«غير المنطقي» و«غير المقبول». وشدد كيلو على أن البطريريك الراعي رئيس أقلية مسيحية في المشرق، وبالتالي هو لا يتحدث باسم المسيحيين. وقال: «الراعي يتحدث فقط باسم كنيسته، وهو لا يلزم أحداً بمواقفه»، لافتاً إلى أن أكثرية المسيحيين في سوريا هم من الأرثوذكس، أما الموارنة في سوريا فأقلية تنتشر في حلب وفي مشتى الحلو وحمص، وعدد محدود في اللاذقية، مؤكداً أن المسيحيين جزء أساسي من المجتمع السوري، وبالتالي يجب أن يكونوا راغبين في حل مشكلات هذا المجتمع المزمنة.
والرابع هو الموقف من الإسلام السياسي، والإخوان المسلمين تحديداً، وهو ردد في أكثر من مرة أنه «إذا كان رأيي تعبيراً عن ديموقراطية مدنية وعلمانية، ورأيهم تعبيراً عن ديموقراطية إسلامية، فلا ضير في ذلك ما دامت الديموقراطية هي القاسم المشترك بيننا، فسوف نقبل المسلمين الذين يتسلمون زمام السلطة عن طريق الانتخابات، شرط أن يقبلوا بالنظام الديموقراطي».
اختار كيلو العمل من الداخل، وكان له الفضل إلى جانب حسن عبد العظيم وحسين العودات وفايز سارة، في فتح ثغرة في جدار الوضع السوري، وذلك من خلال عقد مؤتمري سميراميس وحلبون. ونجح هذان المؤتمران في الرد على رواية بعض أطراف السلطة عن أن المعارضة مشتتة وضعيفة وغير موحدة، أو أنها ترفض الحوار. والإنجاز الكبير الذي يسجل لهذه المجموعة هو أنها حددت بداية طريق للخروج من المأزق، ولأن شخصياتها من الداخل وعلى صلة بالشارع، ساد الاعتقاد بأن يسارع النظام لاستغلال الفرصة من أجل الدخول في حوار جاد مع المعارضة.
كيلو يعد من أكثر السياسيين السوريين متابعة للوضع، لا تغيب عنه التفاصيل، بل إنه يشم عن بعيد، وسجل في الآونة الأخيرة موقفاً لافتاً من مسألتي السلاح والمذهبية اللتين صارتا تتكرران في خطاب بعض الأطراف السياسية، واتخذ موقفاً حاداً منهما. وبالنسبة إلى السلاح، فإنه «سيؤدي إلى معركة ينتصر فيها من يملك سلاحاً أكثر، ولديه الاستعداد لممارسة عنف أشد. إذا استخدم السلاح، تحولت المعركة من صراع في سبيل حقوق إلى همجية لا هدف لها غير قتل الآخر». أما المذهبية فـ«ستحدث في حال نجاحها ـــــ لا قدّر الله ـــــ نقلة نوعية في طابعه (الحراك الجماهيري) وأهدافه وقواه، وستلعب دوراً كبيراً في رده إلى الوراء: إلى حال تشبه الحال بين عامي 1978 ـــــ 1982، عندما همشت الحركة المسلحة الشعب وخاضت معركتها على أسس مذهبية/ طائفية، كان من الحتمي أن تؤسس لموازين قوى أفضت إلى هزيمتها. ليست معركة سوريا اليوم ولا يجوز بأي حال من الأحوال أن تصير دينية أو مذهبية أو طائفية. سوريا تريد الحرية، ومن يحرفها عن هذا الهدف الجامع يخنها ويفرط بتضحياتها وفرصها، مهما كانت مسوغاته».
ويبقى أخيراً معاينة كيلو لمؤتمرات المعارضة في الخارج، فهو يرى أن «هذا التسابق الأخرق إلى تأسيس منظمات متناحرة ومجالس قيادة ثورة متنافسة وجبهات تحرير متصارعة، بينما الوضع على الأرض مليء بالمشكلات والتحديات، التي تتطلب حلولاً مبتكرة تخرجنا من أزمة لا يعرف إلا الله وحده كيف، وإن كنا، سنخرج منها فعلاً». وبخلاف بعض الأصوات التي رحبت بتأليف «المجلس الوطني السوري» في إسطنبول، فإن كيلو كان قد جزم بأن معارضي الداخل «لا ينوون الانضمام إلى المجلس الوطني السوري؛ لأن هذه الهيئة منفتحة على فكرة التدخل الاجنبي». وليس سراً أن ميشيل كيلو الذي انحاز إلى نبض الشارع، لا يزال يرى أن هناك فرصة لحل سوري داخلي يبدأ بوقف الحل الأمني، وبالحوار.