المجيء من رام الله إلى بيروت أسهل بكثير من التجوّل داخل فلسطين نفسها»، لم يكن باستطاعة اللاجئين في مخيم شاتيلا، اولئك الذين مضى على لجوئهم 62عاماً، أن يتخيلوا ما تعنيه هذه الجملة التي قالها احد اعضاء فرقة « تشويش». «شوشت» الجملة أذهان الشبيبة التي أتت للاستماع الى الحفل الموسيقي الذي دعا اليه النادي الثقافي الفلسطيني ـــــ شاتيلا بمناسبة الذكرى الحادية عشرة للانتفاضة الفلسطينية الثانية. صحيح انهم يعلمون ان فلسطين مقطعة الاوصال، وأن خريطتها مرصوفة بالتسويات، والحواجز والنوايا السيئة، إلا انهم لم يكونوا يتصورون معنى «هادا الأشي».اما بالنسبة إلى «اللاجئين» في بلادهم، فقد كانت المرة الأولى التي يأتون بها إلى أحد مخيمات الشتات: شاتيلا، التي لطالما كانت الحاضن الأول والأخير للمقاومين. وما هي الموسيقى بالنسبة إلى روان وباسل و «مقاطعة» إلا نوع جديد ومختلف من الاسلحة لمحاربة العدو ثقافياً، وحتى سياسياً، وذلك من خلال الكلمات والصور وما تحملها هذه من معان. روان، آتية من شفا عمرو، وهي فنانة تشكيلية، باسل آت من صفد، وهو يعمل في مجال المرئي والمسموع، اما «مقاطعة» فهو ملحن من صفد، وهو كذلك كاتب ومؤد لموسيقى الهيب هوب. هم لاجئون داخل فلسطين نفسها، وقد أتوا إلى شاتيلا في ذكرى الانتفاضة الثانية للتواصل مع لحمهم ودمهم وذاكرتهم في الشتات، يقول مقاطعة: «هذه التجربة كانت مهمة جداً بالنسبة إلينا، فنحن دائماً على تواصل مع الفلسطينيين في الداخل، لكنها المرة الأولى التي نكون فيها في أحد مخيمات الشتات. رد فعل الناس في شاتيلا كان رائعاً، فهم كانوا يتجاوبون معي ويسألونني عن كلمات الأغاني التي كنت أؤديها. كان الكثيرون يريدون أن يعرفوا كيف هو شعور الفلسطيني داخل فلسطين، وهذا شيء جميل وإيجابي أن نبقى جميعنا في الداخل والخارج على تواصل». قد يستغرب البعض ذلك الحضور الكبير من نساءٍ وأطفالٍ وشبابٍ وشيوخٍ في حفلٍ موسيقي، لا يحييه المغني التراثي ابو عرب، حفل تغلب عليه موسيقى الهيب هوب. لكن يفاجئك الناس بمدى انفتاحهم الموسيقي، ولو أن كلمات الاغاني قد تلعب دوراً كبيراً في جذب جمهور غير عادي. هكذا، تدرك ما إن تنظر إلى تعابير الوجوه وهي تستمع بإنصات إلى الكلمات، فتعرف أن الحضور أتى إلى الحفل ليسمع وجهة نظر مُختلفة عمّا يسمعه يومياً على التلفزيون، فهؤلاء سيخبرونهم الحقيقة كما هي. الى من يستمعون؟ الى السياسيين أم الى هؤلاء اللاجئين مثلهم في مخيمات الضفة الغربية؟ يجلس الأولاد على الأرض بعد ساعة من الجري والرقص على المسرح، يهدأ الحضور ويجلس الشيخ في الصف الأول إلى جانب المدرّس في الأونروا، تصمت النسوة عن الكلام، يصعد «مقاطعة» إلى المسرح ليتحدّث مع الناس ويغني كلماته، فترى الجميع يطأطئ رأسه موافقةً على كل كلمة سمعها على إيقاع البيت!
كان من الضروري بالنسبة إلى الشباب الثلاثة أن يعرف الناس في مخيمات لبنان كيف هي الحال في فلسطين على حقيقتها، فموضوع سلب الأراضي وتقلّص مساحات «الدولة» الفلسطينية والحفريات تحت المسجد الأقصى لا تلقى اهتماماً إعلامياً كافياً رغم تعرّض الفلسطينيين لها يومياً. العيش في رام الله كما تصفه روان أشبه بالعيش في السجن، فالجدار يعزل المدن الفلسطينية بعضها عن بعض، والتواصل بين المدينة والمدينة أصبح شبه مستحيل. يقول هؤلاء إن أغلب فلسطينيي الشتات يظنون أن الحياة في رام الله عادية بوجود سُلطة وحكومة، لكن، على حد تعبيرهم، هذا هو الوهم الذي يبعثه أغلب السياسيين للناس لكي يصدقوا أن هناك مشروع دولة حقيقياً وقضية شعبية بإعلان الدولة! هذا كله وبحسب ما يصفه مقاطعة «حكي فاضي» لأن المستعمرات في توسّع والأراضي الفلسطينية في تقلّص مطّرد، فكيف يمكننا الوثوق بسلطة تعمل بتنسيق مع الحكومة الإسرائيلية؟ إن كان ذلك على صعيد أمني أو غيره؟ وكيف يمكنهم أيضاً أن يثقوا بالأمن الفلسطيني إن كان يتدرّب على أيادٍ أمريكية كالسي أي إيه؟! وضع اللاجئين الفلسطينيين في فلسطين يشبه في بعض النواحي، وضع لاجئي الشتات. أسأل روان وباسل و«مقاطعة» إن كانوا قد زاروا أراضي 48، فابتسموا وصاحوا «مستحيل! بدنا موافقة أمنية إسرائيلية!»، ابتسموا هم، فأحُبطتُ أنا! قلت كأني أريد أن يغيّروا في اقوالهم «معقول ولا مرة حصلتو على الموافقة؟» فأجابوا «طبعاً لأ!». «طيب بس عرب 48 يزورون رام الله وأراضي السُلطة، ليش إنتو لأ؟ » سألت، فأخبروني أن عرب 48 يستطيعون التجوّل أينما شاؤوا على أرض فلسطين لأن جواز سفرهم اسرائيلي، ويحملون (ولو غصباّ عنهم ) الهوية الإسرائيلية، لكنهم لا يستطيعون زيارة لبنان وسوريا فقط، في المقابل يجب على فلسطينيي 67 الحصول على موافقة أمنية إسرائيلية اذا أرادوا الذهاب إلى مدينة مجاورة تبعد 5 دقائق بالسيارة! يقول باسل «القدوم من رام الله إلى بيروت أسهل بكثير بالنسبة إلينا من الذهاب من رام إلى القدس، وذلك رغم أنّنا نستطيع أن نرى القدس بأعيُننا، نحن نستطيع الذهاب إلى باريس اذا أردنا، لكننا لا نستطيع التجوّل بين المدن الفلسطينية! هذا الشيء لا يعرفه معظم الفلسطينيين الذين يظنون أننا نعيش مرتاحين في رام الله!».



كأغلب الفلسطينيين، يتمنّى «مقاطعة» و«تشويش» أن يهبّ الربيع العربي في فلسطين، وإن كان الحلم بعيد الأمل إلا أن الوضع، على الرغم من صعوبته، ملائم لانطلاق انتفاضة فلسطينية ثالثة تقلب الموازين. ولتحقيق هذا الحلم، تنصح روان الشباب الفلسطيني في الشتات أن يبحثوا عن حقيقة الوضع في داخل فلسطين بأنفسهم ويطّلعوا عليه بعيداً عمّا يروّج له البعض في وسائل الإعلام، وذلك عبر الوسائل المتاحة كالمواقع الإلكترونية التي لا تنتمي لفصيل فلسطيني معيّن، وأن يهتموا أكثر بقضيتهم.