مرة أخرى، خلال أشهر معدودة، أعلن زعيم قائمة «العراقية» إياد علاوي تخلّيه عن رئاسة أو عضوية «المجلس الوطني للسياسات»، حيث كانت المرة الأولى في 26 نيسان من العام الجاري. القرار الجديد قوبل باستغراب التحالف الكردستاني الذي كان يحاول إبان ذلك حلحلة هذا الاستعصاء السياسي الذي أعاق ولادة المجلس عبر مفاوضات مباشرة مع «التحالف الوطني»، مثلما قوبل باتهامات وجّهتها كتلة رئيس الوزراء نوري المالكي لعلاوي بمحاولة «خلق أزمة سياسية فيما تعاني العملية السياسية أزمات عدّة في حاجة إلى الحلول لا التعقيد». الأسباب التي ساقها صاحب القرار جاءت متنوعة، منها حسب قوله «تنصل مَن يدّعي الشراكة من روح الشراكة الحقيقية وتخليه عن الالتزام بالاتفاقات والتوافقات وغياب حسن النوايا، وتقديراً منا لمصلحة العراق العليا وتلمّساً لرغبة مراجع الدين الكرام». علاوي هنا، يتهم المالكي حصراً بالتنصل من «روح الشراكة» في الحكم، التي نُظِمَت بموجب «اتفاقية أربيل» التي وقّعها زعماء الكتل السياسية. أما إشارة علاوي إلى «تلمّس رغبة مراجع الدين الكبار» فهي لافتة حقاً.
المحللون السياسيون رأوها السبب الحقيقي وراء قراره التخلي عن هذا المنصب. فبعض المراجع الدينية، من المسلمين الشيعة تحديداً، انتقدوا ساسة بغداد وحكامها وسجلوا عليهم «تناقضهم الشديد»؛ ففي الوقت الذي اتفقوا فيه على «ترشيق» عدد الوزارات والرئاسات والهيئات العامة ها هم يخططون لإنشاء جهاز سياسي ضخم سيبتلع المزيد من مليارات الميزانية (المجلس الوطني للسياسات العليا) ليكون بمثابة حكومة موازية، أو سلطة رابعة موازية للسلطات الثلاث.
مجموعة أسباب إضافية يسردها علاوي لقراره، وهي من القماشة السياسية ذاتها، فالبلد «يرزح تحت وطأة الطائفية السياسية والجهوية المقيتة والرعب والاعتقالات العشوائية وقوانين المخبر السري والإرهاب والاجتثاث السيئة الصيت وتزايد الجزع والفقر وانعدام الأمن والخدمات والانفراد بالقرار السياسي». بعض المراقبين يعتقد أن هذه الاتهامات التي يوجهها علاوي إلى الحكومة لا تنقصها الصدقية أو الدقة كاتهامات بحدّ ذاتها، غير أن النقد يطاول صاحبها، فهو أول من قاد حكومة عراقية قائمة على أساس المحاصصة الطائفية والعرقية بعد الغزو مباشرة. ثم إن حزبه وقائمته الانتخابية يشاركان الآن وبنسبة الثلث تقريباً في تشكيلات الحكومة والبرلمان وهيئة الرئاسة، وبالتالي فهو يتحمل المسؤولية المباشرة عن الواقع الذي كال له النقد والاتهامات.
تعود قصة «المجلس الوطني للسياسات» إلى فترة المفاوضات على تشكيل حكومة المشاركة القائمة اليوم برئاسة نوري المالكي. وقد نظر كثيرون إلى هذا المجلس كجائزة ترضية لإياد علاوي الذي لم يحصل على ما يعتقده معادلاً لوزنه السياسي، وخصوصاً بعدما تقاسم أقطاب قائمته المناصب الكبيرة: فأسامة النجيفي نال رئاسة البرلمان وطارق الهاشمي حصل على نيابة رئيس الدولة وصالح المطلك نيابة رئيس الوزراء وعلي العيساوي نال حقيبة المالية، إضافة إلى عدد كبير من الوزارات الأخرى.
اما مشروع القانون الخاص بالمجلس فقد نصّ على «المساهمة الفاعلة في حلّ العُقَد التي تعترض العملية السياسية في العراق والخطوط العامة للسياسات العليا للدولة، وتقديم التوصيات والمقترحات بشأن التشريعات والقوانين، وإصلاح النظام القضائي وفق السياقات الدستورية، وتقديم المقترحات الخاصة بتشريعات القوانين المهمة وفق السياقات الدستورية، ومناقشة الاتفاقيات والمعاهدات الإستراتيجية المرتبطة بالأمن والدفاع وسيادة البلاد وإبداء الرأي بشأنها، وتقديم مقترحات لتعديل القوانين النافذة وعلى الأخص الصادرة عن مجلس قيادة الثورة المنحل».
أما عضوية المجلس فليست أقل تنوعاً وارتجالاً، فهي تشمل رئيس الجمهورية ونوابه، ورئيس مجلس الوزراء ونوابه، ورئيس مجلس النواب ونائبيه، ورئيس إقليم كردستان، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، وعضوين من كلّ من الكتل الرئيسة الأربع.
المفارقة أنه وبعد يوم واحد على إعلان علاوي تخليه عن المنصب، أعلنت قائمته أنها ليست في وارد التخلي عن المنصب لأنه من مستحقاتها، وأنها سترشّح له شخصاً آخر. الأمر المهم كما يرى محللون ليس في هذا الإعلان بل في الإقرار غير المباشر الذي تضمنه بأن هذا الجهاز قد مات سريرياً، لكن «العراقية» كما يبدو تريد الاستفادة منه كمركز لمراقبة نشاطات حكومة المالكي لا أكثر.
أما التهديد بترك «الخيارات مفتوحة» كما ورد في البيان، فلا يغير في المشهد السياسي المشبع بالتهديدات والتهديدات المضادة شيئاً. وستستمر عجلة الفوضى والارتجال وتقسيم وإعادة تقسيم الحصص على الأساس الطائفي بالدوران، ما استمرت العملية السياسية الأميركية قائمة.