كان الهتاف الثالث في الكاتدرائية: يسقط يسقط حكم العسكر. الهتاف الأول كان نداء الى المسيح ووعداً بالشهادة: «بالروح بالدم نفديك يا صليب». الثاني فخر الانتماء الى الجماعة: «ارفع رأسك فوق انت قبطي». الجديد هنا هو الهتاف الثالث. لأول مرة في قلب البطريركية يُعلن العداء للسلطة الحاكمة. ويطالب الأقباط الغاضبون بسقوط الحكم العسكري، في حضور البابا شنودة، البطريرك الذي كان يستطيع منع العداء، أو توجيه الغضب، أو حتى تحديد مساره الى عصر شهداء جدد.
لكنه مينا دانيال من صنع جسراً بين الثورة والغضب القبطي. الشاب المبتسم حتى في موته. صنع ذلك الجسر بين حلقات مغلقة على الألم القبطي وبين جماعات عملت في الشوارع وحرّرت غضبها في ثورة دخلت منذ 9 تشرين الثاني مرحلة جديدة تماماً.
مينا لم يكن ناشطاً من أجل الهم القبطي. كان عضواً في «شباب من أجل العدالة والحرية»، وجثمانه ذهب الى مقرّه الأخير ملفوفاً بعلم مصر، ونفّذ الأصدقاء وصيته بالخروج الأخير من ميدان التحرير. جنازة مسائية، لصاحب الجسر بين الهموم. يبدو هذا هو سرّ الابتسامة التي طُبعت على وجهه بعد رصاصة اخترقت جسمه من الكتف وخرجت من الظهر لتفجر الرئة بحمولتها الكاملة من الأوكسجين.
الغاضبون من الأقباط عبروا بعد مذبحة ماسبيرو الى الوعي الذي صنعه الألم. إنها ليست فتنة طائفية، بل فتنة المستبد، الذي يفشل حتى في فرض الاستبداد. «احنا الشعب الخط الأحمر»، هزّت الميادين عندما تحرّك الوعي من نوم عميق كان يرى الحاكم هو الدولة والدولة هي الوطن ولا قيمة لأحد غير هؤلاء. الجالسون في شرفاتهم يأمرون ويوزعون الأنصبة ويعاقبون الخارجين، والأهم يرسمون ملامح المواطن الصالح وحدوده.
الشعب يعرف نفسه عبر هذه الجنازات والآلام التي تخرج عن سيطرة المجلس الحاكم، الذي لا يمتلك قدرات السيطرة. هل صنع المجلس الفوضى على طريقة الجنرالات القدامى ليذهب الشعب اليه و يتوسل: احمونا؟ هل يريد أن يصنع جمهورية استبداد جديدة؟
قد تكون هذه رغبات أو غرائز موجودة داخل المجلس، أو في المجال الحيوي، الذي يريد أن يعيد انتاج مبارك في طبعة أكثر نبلاً. لكن الفشل سيكون من نصيب هذه السيناريوهات جميعاً، لأنها تحتاج الى آلة قمع ضخمة جداً، وتحتاج أيضاً الى جهاز اعلامي فعال يصدقه الناس.
والمجلس يفتقد آلة القمع العنيفة، كما أنه عندما حاول اعادة شحن جهاز اعلام مبارك، انفجر في وجهه بفضيحة كادت أن تُطيح البلد كله. هل المذيعة التي خرجت الى الناس تُعلن وفاة ٣ جنود من الجيش برصاص حي من الأقباط كان لديها معلومات أم توجيهات؟ أم أنّها رأت فجأة في لحظة شجاعة أنّها قائدة في حرب استعادة البلد من الثورة؟
المجلس يريد أن تتوقف الثورة عند لحظة يروي فيها ما حدث على أنه «حمى الثورة». رواية تريد أن تلغي حقائق أخرى أولاها أن الثورة حرّرت المجلس من أسر نظام مبارك. أما أهم هذه الحقائق، فهي أن المجلس غادر موقعه المتوازن ليصبح طرفاً لا حكماً لدرجة تورطه في إطلاق رصاص على مواطنين عزّل.
نعم. عُزّل. رغم إصرار أجهزة التضليل على اختراع الأكاذيب المضحكة. أكاذيب تزيد من عبثية الوضع في مصر. فلا معنى مثلاً لـ أن المدرعة المقاتلة سُرقت أو أن الرصاص أُطلق من قناصة أو الى آخر هذه الروايات الخرافية المفرطة في سذاجتها، أو في تخيل أن جمهورها بلا ذكاء أو خبرة مع أكاذيب المستبد. من ورّط الجيش في استخدام العنف بهذه الطريقة؟ هل كانت هناك خطة لإشاعة مزيد من الفوضى بعد تحريض المسلمين الطيبين من التلفزيون الحكومي؟
هل كان يريد المجلس صناعة صورة إصابة الشعب بالجنون المفرط، وعلى الجميع اللجوء الى الجنرالات العقلاء ليوفروا الأمن والحماية؟ أم كانت مجموعة من الصدف الخارجة عن سيطرة المجلس، بدأت بمحاولة السيطرة على التظاهرات بعنف خفيف، اعتادت من خلاله الشرطة العسكرية اصطياد المجموعات الصغيرة، لكنها فوجئت بالتداعيات التي أسقطت ٢٥ ضحية لن تنساهم مصر أبداً لأنهم سقطوا برصاص الجيش المصري. وهذه جريمة لا تسقط بالتقادم ولا بالروايات الكاذبة.
المجلس بتصرفاته الأخيرة، ومنذ موقعة العباسية، صانع للفوضى، وذلك عبر تشغيل سلاح البلطجية، وتحفيز جمهوره الذي يسميه «المواطنين الشرفاء». شعب من صناعة «الكاكي» يسير خلف تعليمات السلطة. مخلص للسمع والطاعة ويفتقد المنطق. هو مع الثورة وضدّ الثوار. مع التخلص من مبارك ويفتقده. مع تحقيق العدالة لكن من دون تظاهرات.
صانع الفوضى يريد من الجميع اللهاث اليه وطلب حمايته من صناعته. هذه هي المحاولة التي أفلتت منه في ماسبيرو بسبب تضخم حجم التظاهرة وجغرافية المكان المركّبة. والأهم غياب كفاءة القوات غير المدرّبة على فض الجموع الكبيرة، والمفتقدة الجهاز السياسي القادر على إعادة شحن شعب «المواطنين الشرفاء» ليستمر في حرب الدفاع عن المجلس.
ماسبيرو كانت موقعة مناسبة لاكتساب شعبية. فالطرف الآخر واضح والتجييش ضدّه سهل. أقباط ضدّ الجيش. يفترون على جنوده. يطلقون النار عليه ويحرقون مركباته. أما الجيش فعاقل وطيب ومظلوم. باختصار، الشعب حوّل الجيش الى ضحية. الفشل في موقعة ماسبيرو حدث بسبب انفلات الوضع بحيث تصعب السيطرة عليه، خاصة بعدما سقط قتلى، ولم يتوقف الأمر عند اصابات ودماء خفيفة. إذ هناك جزء من الخطة نجح، وهو عزل الثوار، وكل من يطالب بالحقوق أو يقف في مواجهة ادارة المجلس. في يوم المذبحة نفسه، اقتحمت الشرطة العسكرية مصنع نسيج في محافظة المنوفية لتفض اعتصام عماله بالقوة. بعدها بثلاثة أيام، فضّت اعتصام المصرية للاتصالات بالقوة. إنها تشير بذلك الى أن «التظاهر» أو «الثورة» فوضى، بينما لدى المجلس، وفي مكان ملحق بطاولة اجتماعاته، «ثورة متحضرة» يرعاها، ويدعمها ويحميها ويعد الشعب بأنه سيقودها الى مستقبل يشهد له العالم كله.

«مؤتمر عالمي» لصناعة عدو داخلي



بعد صمت أيام، خرج المجلس العسكري، في «مؤتمر صحافي عالمي»، ليتحدث عن مذبحة ماسبيرو. مؤتمر خصصه لصناعة «عدو داخلي»، من دون أن يجيب عن سؤال «من أطلق النار؟»

مجلس الجنرالات لا تزال عقليته في زمن تتصور فيه السلطة انها الراوي الوحيد. الثورة كسرت احتكار الرواية للأبد، بل إنها قامت اساساً على ارضية صنعها الخدش ثم النهش في قدسية السلطة من ناحية صدقيتها.
الرواة في المجلس لم يخططوا جيداً لروايتهم، خططوا مؤتمراً صحافياً وألحقوا به صفة «العالمي»، تعبيراً عن افتتان مدهش بتسميات تشير الى حداثة شكلية، تغطي العقلية والذوق المنبهر بالشيء البعيد، دون أن يكون مستعداً لدفع ثمن الوصول اليه، او السير في رحلته.
المؤتمر العالمي لم يكن عالمياً، ولا محلياً، وجمهور الرواية الرسمية، جوقة، كسرت الحائط الرابع في بريختية كانت ستدهش بريخت نفسه. الجوقة اكملت الرواية، ولم تتساءل بشأنها، وبدا المجلس في تجييش واضح لخلطة بين تكشير السلطة عن انيابها وخطاب نوايا حسنة تجاه مستقبل يصفونه بالجميل الذي يليق بمصر.
لم تقل كلة واحدة عن المعنى السياسي لما حدث في ماسبيرو، ولا تأثير ذلك على المستقبل، لكنها خطبة دفاع طويلة تضمنت تهديدات لثلاث جهات: الثوار، وسمّتهم شخصيات حرضت على الاحداث، والإعلام واختارت منه الذي ينشر اخباراً مضللة، وجمعيات حقوق الانسان التي تتمول من الخارج وتقوم بنشاط معاد للدولة.
الرواية الرسمية تريد عزل التظاهر وتقسيمه الى «تظاهر حضاري» من 500 متظاهر قالوا ما لديهم ورحلوا، ثم اتت التظاهرة الاخرى المثيرة للفوضى المخططة لتدمير الدولة. هذه خطة عزل تتطلب صناعة عدو، والعدو هذه المرة ليس خارجياً، فالمؤتمر عالمي، لكنه عدو داخلي يستقوي بالخارج.
هذه رواية من ملائكة الجنرالات، لكنها وضعت المجلس العسكري في موقع الطرف، لا في موقع المسؤولية الكبيرة.
الرواية اعجبت الجمهور التقليدي، مؤيدي الخطابات الرسمية، لأنها دعتهم الى التعاطف ونصرة المجلس الطيّب ضد الاشرار الذين يريدون حرق البلد. رواية المجلس لم تجب عن سؤآل: من اطلق الرصاص؟ هل يمكن أن يجيب؟ هل يمكن ان يعيد تشغيل موقعه الاول بعد اكتشاف أن مواقعه الاخرى ادت الى الكوارث؟ هل يمكن ان يساهم من جديد في فتح الافق السياسي الذي أغلقه؟ ويفكك اجهزة النظام الاستبدادي في الاعلام والامن؟ ام تتكرر خطايا المستبد؟
بعد نهاية الرواية الرسمية، انفجرت روايات اخرى بديلة تدافع عن نفسها، في ما يبدو حرب الروايات مع المجلس، فروح الثورة ما زالت تتجول، غاضبة، محبطة، لكنها تشحن قوّتها ولن تقبل بالعودة الى الديكتاتورية. فاتورة هذه العودة لن يقدر احد على دفعها.

«الفلول» يمجّدون «قاتل الميلاد»




لماذا خرجت فلول الحزب الوطني في وداع الكموني؟ لماذا تصدروا جنازته وهم يهتفون هتافات اسلامية؟ هل كان الكموني ولياً من اولياء الله، ام ولياً من اولياء الديكتاتور؟
الكموني قَتَل في عيد الميلاد في العام 2009 12 مسيحياً أثناء خروجهم من مطرانية نجع حمادي. قاتل نُفّذ فيه الاعدام فجأة أول من أمس، في ما بدا وكأنه ترضية لمشاعر المسيحيين. الكموني ضحية دائمة، بجسده الضخم ورأسه الحليق يبدو كأنه مبعوث في مهمة خاصة. نظراته بين السذاجة والعنف المستتر. تقفز من خلفها مشاعر مغدورة. هو واحد من بين ٣ ملايين «مسجل خطر».
مذبحة تمحو مذبحة. بعد ساعات من مذبحة ماسبيرو، يصدر قرار تنفيذ اعدام القاتل في مذبحة عيد الميلاد، التي قتل فيها ٨ مسيحيين وأمين شرطة على بوابة مطرانية نجع حمادي (جنوب الصعيد) بوابل من رصاص، يقال إن الكموني وبصحبته عصابة من 3 اشخاص أطلقوها على الحشد الخارج من الاحتفال الديني.
الكموني فتوّة بالمعنى القديم، وبلطجي تحت الطلب بالمعنى الحديث، الذي يمكن استخدامه او تأجيره. وهو اعترف بأنه اطلق الرصاصات المجنونة ليلة عيد الميلاد لأن جريمة الاغتصاب استفزّته، وهو الذي بدأ مجده الاجرامي بواقعة هتك عرض تلتها وقائع اخرى متنوعة، بعضها من النوع الجنسي نفسه.
نظرية المؤامرة فاتنة هنا وقديمة، الدولة وقتها، وفي عز نظام مبارك، وجهت كل الانظار إلى الخارج. لم تفكر الدولة ابعد من توجيه النظر للخطر الخارجي لكي لا يرى المجتمع كوارثها وفشلها المتكرر في صناعة مناخ يقاوم الطائفية المتصاعدة من التسعينيات. الدولة وقت مبارك جندت حراسها للبحث عن «كموني» دولي يحرك الكموني المحلي.
المجتمع يستطيع بسهولة ان يفهم سر الكموني، فهو وغيره من المسجلين خطرين، أداة ذات حدين في يد رجال الشرطة المحترفين. هم عناصر كشف الجريمة وتنفيذها في الوقت نفسه. الكموني ابن عزيز من ابناء مبارك. وكان لا بد من ان يبكي عليه ضابط امن الدولة، الذي اصبح وكيلا من وكلاء مؤسسي احد احزاب الفلول (الحرية)، هو نفسه الذي قاد التهديد بقطع الطرق اذا طُبق قانون العزل. وكان لا بد من ان يشاركه البكاء نائب ابدي من نواب الحزب الوطني والمستعد لاستعادة موقعه في الانتخابات المقبلة. الكموني هو ولي من اولياء الحزب، استخدموه حياً، ويريدون ان يستخدموه بعد الاعدام، لكي يتحولوا من صنّاع جريمة الاستبداد والفساد الى ضحايا للثورة. انها جنازة رمزية استخدم فيها فلول الحزب الوطني العواطف الدينية، وهم على استعداد لاستخدام كل شيء… لكي يعودوا وعلى وجوههم دموع التماسيح.