البارد | العائلات التي وافقت على السكن في براكسات من حديد استجلبت الى مخيم البارد المدمر، اعتقدت أن عودة الكثيرين من النازحين للسكن في المخيم الأم ولو «تحت خيمة» كفيل بتسريع عجلة الإعمار. لكن عجلة الإعمار كانت تدور ببطء شديد، فتعالت الأصوات، شتاءً بعد شتاء، صيفاً بعد صيف، منددة بالواقع المهين: عائلات محشورة برجالها ونسائها وأطفالها في بضعة امتار تتحول الى فرن في الصيف وإلى براد في الشتاء، سكن يفتقر إلى أدنى الشروط الإنسانية. هكذا، «استجابت» الأونروا وقررت إزالة البراكسات، لكن.. من دون توفير بدائل حقيقية، ما جعل بعض السكان أمام مشروع تهجير جديد.في المخيم، كثيراً ما يمضي عماد عودة مسؤول الجبهة الشعبية في الشمال وقته في مستوصف الشفاء. وهناك يظهر الرجل حماسة دائمة لاستقبال الزوار ومناقشتهم في مختلف القضايا. لكنه صباح الثلاثاء الماضي، لم يبدِ اهتمامه المعهود بقضية بمثل أهمية قرار الأونروا إزالة براكسات الحديد. يغمغم ويصوغ بديبلوماسية الفلسطيني الذي اعتاد الالتفاف على محنه، مفضّلاً انسحاباً لائقاً من بحث موضوع البراكسات بحجة إفساح المجال للجان الشعبية ولجان البراكسات وساكنيها حتى «لا يؤخذ على الفصائل الفلسطينية تسييس الموضوع». لم ينم عودة، كما فهمنا، طوال الليلة الماضية بعدما خاب أمله لعدم شمول صفقة تبادل الأسرى بين حركة حماس و«إسرائيل» قائد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الأسير أحمد سعدات، وبخاصة أن فترات الغيبوبة التي يعانيها هذا الأخير تزداد يوماً بعد آخر نتيجة خوضه معركة الأمعاء الخاوية مع سائر الأسرى في المعتقلات الإسرائيلية. ومع ذلك لم يفت عودة تقدير معيار الأقدمية الذي اعتمدته عملية التبادل.
لم يتأخر الحاج زياد شتيوي عضو «لجنة البراكسات» في تلبية دعوة عودة إلى مناقشة قرار الأونروا إزالة البراكسات، وكأنه بانتظار أي أحد ليسمعه صوت الأهالي وتبرير سعيهم إلى تعديل القرار وتوفير شروط أفضل لتنفيذه قبل أن يقع «الفاس بالراس». بدا شتيوي في عرضه المسألة مستهدفاً أمرين، الأمر الأول محاولة إشراك أهل المخيم برمتهم بالقضية، والثاني تعديل القرار من دون رفضه كلياً. يعرض شتيوي رحلة العوائل التسعين الذين سكنوا مدارس الأونروا في مخيم البداوي بعد تدمير البارد، حيث ذاقوا الأمرّين، ثم شكلوا طليعة العائدين إلى البارد ليثبّتوا فكرة العودة إلى المخيم وبعث الحياة فيه من جديد. أما إزالة البراكسات فقد كانت ولا تزال مطلباً ملحّاً من جانب الأهالي واللجان الشعبية والفصائل الفلسطينية، ولكن ليس على قاعدة «خذ الإيجار ودبر حالك». فالبراكسات جهنم لا تطاق، وربما قررت الأونروا إزالتها استجابة للإلحاح المتصاعد والمطالبة بتحسين الظروف اللإنسانية، لكن لو كان بالإمكان استئجار منازل أخرى «لما صبر الناس على المر والقرف والتعتير»، أما مبلغ المئة والخمسين دولاراً المقدم من الأونروا، فإنه لم يعد يكفي «لاستئجار كاراج في طرابلس»، كما يقول. هذا فضلاً عن تأمين فاتورتي الكهرباء والمياه ومصاريف انتقال الأولاد إلى مدارس الأونروا، عدا كون الأهالي قد اعتادوا تدبير أمورهم بشيء من العمل، ولو كان قليل الجدوى، في محيط سكنهم في المخيم، علماً بأنه لم يعد يوجد في المخيم ولا وفي جواره أو حتى في مخيم البداوي منازل للإيجار. وهذا يعني، يضيف شتيوي، أن إزالة البراكسات بهذه الطريقة تساوي عملية تهجير أخرى.
يلح شتيوي في سياق حديثه عن عيشة سكان البراكسات الجهنمية على مرافقتنا له لكي نعاين بأم العين ومباشرة ما يحصل كي لا يقال إنه يبالغ.
الطريق المؤدية إلى البراكسات غير معبدة مثل الكثير من زواريب المخيم، وهناك يصف «تتنيكة» (دكان من ألواح التنك)، يبيع فيها القهوة وبعض المشروبات الغازية، بأنها فندق خمس نجوم. بجانب التتنيكة تجتمع بعض بناته وأحفاده. إحداهن تشرب القهوة و«تستمتع»، حسب ما تقول ساخرة، برائحة روث البقر تنبعث من مزرعة صغيرة، يفصلها جدار، بعلو منخفض، عن مجمع البراكسات. اما دخول النفق المظلم الأول الذي يفصل بين أقفاص الحديد المسماة براكسات، وهي أقرب إلى سجون العزل الانفرادية منها إلى مساكن، وعلى بشاعة المشهد، أسهل بكثير من الخروج منه.
مع دخول أي شخص غريب، تتدافع النسوة والأطفال، ومعهم بعض الشباب اليافعين، يتسابقون إلى شكوى الحال. فالنفق الذي يفترض أن يشكل باحة للعب الأطفال، احتلته الجرذان، خصوصاً بعد اهتراء شبكات الصرف الصحي وخروج المياه الآسنة. فإذا بالطفل عبود الشاعر يلتقط قذارات الجرذان ويبتلعها، في غفلة عن أمه، فينقل فوراً إلى المستشفى، حسب ما فهمنا من جدته. أما ناجية عبدو، فهي لا تستطيع النوم إلا بعد «لفّ رجلي ويدي بالحرام، مع إنو الغرفة متل النار» وذلك تجنباً لعضات الصراصير. وبسرعة عجيبة تسحب ناجية صندوقين من تحت طاولة خشبية، وضعت عليها الفرش والأغطية، وتنبش منها ألبسة «مجعلكة»، شكلت أعشاشاً وملاعب للصراصير، وتقول «جسمي انهار مرة واحدة من كثرة الأوساخ». لحظات أخرى، وتقتحم نساء أخريات المنزل/العلبة، ويتوجهن نحو زاوية «تسمى» المطبخ، فتقوم إحداهن بفتح ربطة خبز بدت حقلاً للنمل والصراصير، وتكتفي بالقول «قرفنا من الأكل».
من جهته، لا يرى أبو نمر أحمد عبدو، عضو اللجنة الشعبية، أن قضية البراكسات هي مشكلة المخيم الوحيدة. و«نوضع دائماً أمام الاختيار بين السيّئ والأسوأ» فاستحق توصيف قرار إزالة البراكسات، بـ«موضوع حق يراد به باطل»، لأن «الأونروا أصدرت القرار بناء على طلبنا، لكنها لم تناقش أحداً بالبدائل، وعللت تقديم 150 دولاراً فقط بدل إيجار منازل بديلة بحجة نقص التمويل، وهي حجة مردودة لأن معدل أجور الموظفين الدوليين البالغ عددهم قرابة المئة يبلغ 15 ألف دولار للموظف الواحد، عدا جوانب الهدر الأخرى في سياق تلزيم المشاريع وتنفيذها، كما في الاحتفالات واللقاءات الدعائية. وكان آخرها بمناسبة حضور 28 سفيراً مع مسؤولي الأونروا والوزير وائل أبو فاعور من أجل تدشين ثلاث مدارس، حيث جرى خلال يومين فقط تعبيد طريق طولها خمسمئة متر، من دون أدنى اعتبار للمعايير الفنية، بحجة أن الطريق مؤقتة. بالإضافة إلى ساحة كبيرة لوضع الكراسي، بينما ينتقل ألفا تلميذ سيراً على الأقدام مسافة متوسطها 700 متر على طريق ترابية، وطريق مجمع الشفاء، على اهميتها، لم تعبّد بحجة مرور خط النفط. أليس من الأولى تأمين حركة التلاميذ والمرضى وتجنيبهم الوحول ولو عبر طريق مؤقتة؟» يسأل الرجل مستنكراً، وينظر إليك بثبات.



يزور المدير العام للأونروا سلفاتوري لومباردو مخيم البارد اليوم برفقة ممثلين عن الدول المانحة. وقد أفاد مسؤول الجبهة الديموقراطية أركان بدر بأن لومباردو سيجتمع مع الفصائل الفلسطينية واللجان الشعبية في المخيم لبحث توفير مخرج لائق للقاطنين في البراكسات في حال إصرار الوكالة على قرار إزالتها. كذلك ستناقش قضايا ومشاكل أخرى يعانيها أبناء المخيم، ومن ضمنها صرف العمال الفلسطينيين المياومين من الأونروا. وكانت المشرفة الاجتماعية في الأونروا منتهى لوباني، المسؤولة عن ملف العائلات الساكنة في البراكسات، قد التقت لجنة البراكسات، ونقل عنها تفهمها هواجس الأهالي، ووعدت بتوفير حلول مرضية ولائقة قبل تنفيذ قرار الإزالة.