طرابلس | إنّها العاشرة صباحاً بالتوقيت المحلي للعاصمة الليبية، طرابلس. المكان، ساحة الشهداء في المدينة أو ما يعرف بالساحة الخضراء. هنا نزل الآلاف مرغمين من أهالي العاصمة الليبية، مجبرين تحت تهديد اللجان الثورية والشعبية، رافعين العلم الليبي الأخضر وصور ملك ملوك أفريقيا. وهنا ألقى الزعيم الراحل خطاباته قبل أن يحضر بالصوت. وهنا دعا الليبيين الى الفرح والرقص والغناء، ومطاردة الجرذان. وهنا أيضاً ألقى آخر خطاباته قبل ليلة من سقوط العاصمة. وردّد الناس بعدها كلماته في سُخرية «شرّ البلية ما يضحك»: ثورة، ثورة... إلى الأمام... إلى الأمام. صباح أمس، بدت الحركة طبيعية. من يتوجه لأعماله، ومن يتجول في الساحات ومن يسير مع قافلة سيارات مع عدّة مسلحين. الخبر الأول يسقط على المدينة حول تحرير سرت وسقوط الحي الثاني بأيدي الثوار. يمرّ الخبر عادياً. لكن مع مرور الخبر الثاني حول وقوع شخصية ليبية هامة تحت سلطة المقاتلين يشتدّ التشويق، فالأخبار تصبح أكثر إثارة. المقاهي تحول وجهتها الى قنوات ليبيا الحرة و«الجزيرة» و«العربية». هناك ترقب لمعرفة الشخصية الهامة تلك.
وتبدأ التخمينات. يرجح البعض كفة عبد الله السنوسي. البعض الآخر يقترح اسم المعتصم أو بأفضل الأحوال سيف الإسلام، لكن عندما يكون الحدث متعلقاً بمعمر القذافي شخصياً، الذي كان يتوعّد الثوار بالويل والثبور وعظائم القبور، فإن الأمر يبدو مختلفاً كلياً. الأنباء تتوارد بين اعتقال الطاغية أو مقتله، وبين من يقول إنه في طريقه لمصراته، ومن يقول إنه يتجه الى طرابلس. وفي الحالتين تتزايد الأعداد باتجاه الساحة الكبرى في العاصمة. الأعلام الليبية تكثر والهتافات بالحرية والتكبير تتصاعد.
الخبر إذاً صحيح. العقيد في قبضة الثوار حياً أو ميتاً. وفي هذا الوقت، أصبح الوصول إلى الساحة شبه مستحيل مع الحشود البشرية الهائلة الزاحفة نحوها. لا علَم يعلو فوق الراية الوطنية. وفي أحد جانبي الساحة، انتصبت منصة كُتب عليها ليبيا حرة ثورة 17فبراير، اعتلاها عدد كبير من الأشخاص، يبدو أنّهم مكلّفون بحماية الساحة. لا إطلاق للرصاص في الهواء، وقد يكون ذلك التزاماً بفتوى مفتي الديار بعدما أُصيب العشرات في إطلاق نار عشوائي على عكس ليلة سقوط طرابلس. فيما جاب عشرات الليبيين بسياراتهم شوارع العاصمة مطلقين العنان لأبواقها، ما تسبب في زحمة سير خانقة.
يطل رئيس المجلس العسكري، عبد الحكيم بلحاج، عبر شاشة «الجزيرة» ليهدي الجموع نبأ مقتل القذافي المؤكّد بعد القاء القبض عليه في إحدى الحفر، لتعلو أصوات التكبير في كل مساجد طرابلس ويخرج الناس، إما سيراً أو بسياراتهم والهدف واحد: الاحتفاء بنهاية عهد العقيد الطاغية.
يقف نادل في أحد فنادق العاصمة مدهوشاً وعيناه شاخصتان الى شاشة التلفزيون هاتفاً «لا أصدق عيني. قضي الأمر، قضي الأمر... الله أكبر. تعالوا وانظروا! إنه هو»، في اشارة الى الصور التي تعرضها القنوات.
الأخبار لم تنته. إلى جانب القذافي، انضم وزير دفاعه أبو بكر يونس. وبعد فترة قصيرة يصل خبر القبض على المعتصم القذافي، قبل أن يتأكّد نبأ وفاته. والأجواء الاحتفالية تتواصل. البعض يرفع صور شهداء الثورة وضحايا النظام السابق. هناك من اقتبس خطاب الزعيم الشهير وبات يردّد: الى الأمام الى الأمام، وهناك من رفع رايات الإسلاميين، وهناك من سجد للرب شاكراً، وهناك من بدأ يدعو بقرب سقوط باقي الأنظمة العربية في اليمن وسوريا خاصة.
ووسط كل هذا ثمّة انتشار أمني وعسكري كثيف للغاية في شوارع وميادين العاصمة. أما في مصراته، فتبدو الأجواء أكثر حماسة، وخصوصاً أن ثوار المدينة التي عانت لسنوات طويلة من قمع العقيد ولجانه هم من ألقى القبض عليه. ومع وصول جثة القذافي الى مصراته، وصلت الأجواء الاحتفالية الى ذروتها. وانسحبت هذه الأجواء الى الشرق في بنغازي، حيث رُفعت أعلام الاستقلال ومعها أعلام اليمن وسوريا وتركيا وفرنسا.
رغم نشوة الاحتفال، فإن ليبيين بدأوا بالتفكير في مرحلة ليبيا ما بعد القذافي. يقول محمد «علينا الآن التفكير بليبيا الغد. لقد ضيعنا الكثير من الوقت، هذا يكفي». قبل أن يضيف «آمل أن تتوصل القوى السياسية سريعاً جداً الى اتفاق في شأن مستقبل ليبيا»، ولا سيما مع وجود مخاوف من صراع على السلطة بين القبائل والمناطق وبين الاسلاميين والليبراليين.
الا أن عفاف التي تعمل مدرّسة بدت أكثر تفاؤلاً، وقالت إن «الليبيين لديهم أمل كبير في المستقبل. ثمة ارتياح لكن أيضاً نفاد صبر. الغد سيكون بالتأكيد أفضل». وأضافت «ثمة شعور بالحرية. الجميع ينتقد الجميع، من الطبيعي أن تحصل خلافات».
لكن الجميع أكّد أن الليلة ستكون ليلة بألف ليلة، ليلة اعلان المجلس الوطني الانتقالي تحرير البلاد الكامل. وهكذا طوت ليبيا صفحة طويلة امتدت لاثنين وأربعين عاماً من جنون طاغية لتفتح صفحة جديدة مليئة بالتحديات..