باريس | تكاد تكون عبارة التدخل الخارجي في سوريا كافية وحدها لرسم خطوط عمودية لا التقاء فيها بين أطراف المعارضة، أكانوا ممن لا يزالون داخل البلاد، أم من هؤلاء المنفيين طوعاً أو قسراً. هكذا تبدو الصورة علناً على الأقل، بما أنّ تدقيقاً في مواقف رموز من «المعارضات» السورية حيال الموضوع يكشف أنّ الأمر ليس بهذه الدرجة من الاختلاف، لذا يصبح التمييز بين المصطلحات ضرورياً، بما أن طلب «التدخل الخارجي» كلمة مطّاطة للغاية، ويمكن أن تشمل حثّ الخارج على الضغط على النظام، وصولاً إلى استدعاء تدخل عسكري مباشر. غير أنّ هذا التمييز في المقصود من هذا التدخل الخارجي يفقد معناه بالنسبة إلى معارضين باريسيين بارزين، كهيثم مناع، القيادي في إطار «هيئة التنسيق لقوى التغيير الديموقراطي»، الذي لا يتردد في تكرار موقفه الذي يفيد بأن كل من يأتي على ذكر التدخل الخارجي هو خائن وغير وطني، ومن بينهم «المجلس الوطني السوري».ولعلّ السابقة الليبية في ترجمة مبدأ «التدخل لحماية المدنيين» الذي دخل أروقة الأمم المتحدة والقانون الدولي عام 2005، هي ما يعوق نقاشاً أو حواراً جديين بين مَن يطلب التدخل الخارجي على قاعدة أنه لا طريقة للتخلص من النظام السوري إلا بالمساعدة الخارجية، من جهة، ومَن يرى أن مجرّد الإشارة إلى طلب تدخل خارجي هو استدعاء لخرق السيادة السورية ومقدمة لضرب سوريا واحتلالها ربما، من جهة ثانية.
من جهة المعارضة المعترَف بها من قبل النظام السوري، التي يصفها معارضون باريسيون بأنها ديكور معارض خوّله نظام الرئيس بشار الأسد التحدث باسمه في هذه الفترة للإيحاء بأنّ هذه هي «المعارضة الوطنية» المقبولة، كالأمين العام لوحدة الشيوعيين السوريين قدري جميل مثلاً، فإنّ أي إشارة إلى حماية المدنيين من قبل جهة خارجية يعني بالضرورة استدعاءً للسيطرة الخارجية على سوريا وشعبها ومقدراتها. هكذا، يصبح «المجلس الوطني» معارضة غير وطنيّة بتعريف جميل، «لأنه يطلب التدخل العسكري على شاكلة حماية المدنيين». موقف يشارك فيه معارضون «غير معترف بهم» كهيثم مناع على كل حال. هذا في ما يتعلق بالجهة المتطرفة في جبهة رافضي التلفُّظ بأي إشارة لحلول خارجية للمشكلة السورية. أما في المعسكر «المتطرّف» المقابل، الذي يجسّده معارضون، منهم بارزون كهيثم المالح مثلاً، أو مغمورون نوعاً ما كالصحافي فهد المصري المحسوب سابقاً على مؤسسات إعلامية تابعة للنائب الأسبق للرئيس السوري رفعت الأسد، فإنّ التدخل العسكري ليس مجرد احتمال، بل يكاد يكون مطلباً لا سقوط للنظام السوري من دونه، ولا حماية لأرواح السوريين بسواه. هكذا، في حين يشدد المصري، المقيم في باريس، على ضرورة حصول التدخل العسكري غير المشروط، فإنّ المعارض ذا الخلفية الإسلامية، هيثم المالح، يضع موقفه في إطار معادلة رياضية بسيطة تقوم على أن التدخل العسكري الخارجي ضد النظام يبقى، على علّاته، أقل سوءاً من بقاء نظام الأسد، وخصوصاً أن القصف الجوي الذي قد يصاحب هذا التدخل «لن يصيب المواطنين، بل سيستهدف مؤسسات النظام»، وبالتالي فإنّ «تدمير الحجر أفضل من قتل الناس» (على يد النظام)، على حدّ تعبير المالح.
بين هذا وذاك، يرى معارضون بارزون، أكانوا منضوين في صفوف «المجلس الوطني» أم في «هيئة التنسيق الوطنية للتغيير الديموقراطي»، أنّ النقاش في احتمالات حصول تدخل عسكري من عدمه يُطرَح بطريقة خاطئة. على سبيل المثال، يرى المعارض المخضرم ميشال كيلو أن الشعب السوري لا يمكنه أن يوافق على أي تدخل عسكري أو احتلال لبلاده، وبالتالي فإن الأمر غير مطروح أصلاً. ومن جهة أخرى، يرى قادة «المجلس الوطني»، من الدكتور برهان غليون إلى الدكتورة بسمة قضماني، أنّ الجهة المقصودة بالتدخل الخارجي، أكانت الغرب عموماً أم تركيا أم الطرفين معاً، غير مستعدة أصلاً لشنّ حرب عسكرية ولا لدفع فاتورتها، وبالتالي فإنّ الكلام على هذا الموضوع يحيّد النقاش عن سكّته الصحيحة، بحيث يصبح مجرد فزّاعة تخدم بقاء النظام وتخوين الملايين من معارضيه. هكذا، يصرّ الموقف الرسمي، على الأقل لـ«المجلس الوطني»، على أن دور التدخل الخارجي السلمي في سوريا مطلوب ليؤدّي وظيفة معيّنة ومحدودة، وهي التلاقي مع الضغط الداخلي المستمر من خلال حركة الاحتجاجات التي يجب أن تتّسع دائرتها للإطباق على النظام والتسبّب بانشقاق كبير في الجهازين السياسي والعسكري يؤدي في النهاية إلى سقوطه.
وفي ترجمة لهذين الموقفين، يقول ميشال كيلو، في المؤتمر الصحافي الذي عقده مع زميليه فايز سارة وسمير العيطة في باريس في 11 تشرين الأول الجاري، إنه «إذا كان الخيار هو بين احتلال سوريا وتدميرها أو بقاء النظام، فليبق النظام، على الأقل لأنّ مصيره في النهاية إلى زوال. أما إن دُمِّرَت سوريا، فلن يبقى لنا شيء، حتى إننا مستعدون للقتال إلى جانب النظام إن حصل احتلال، وسنحارب ظهور أي أحمد جلبي سوري». كلام حماسي واضح في رفضه لأي تدخل عسكري، يعود كيلو ليوضحه بعبارات أكثر سياسية، عندما يذكّر بأن المعارضة السورية حذّرت النظام، منذ بدء الأزمة، من أن استخدام العنف لحل مشكلة سياسية «سيفتح الأبواب أمام التدخل الخارجي. كذلك فإنّ إرسال الجيش إلى الحدود التركية واللبنانية والعراقية والأردنية يستدعي بالضرورة تدخّل هذه الدول». ويتابع كيلو: «اليوم، لا يوجد أحد إلا يتدخل في الشؤون السورية، من حزب الله وإيران وتركيا والأردن والسعودية وأميركا والصين وروسيا وصولاً إلى (حزب) الكتائب (ساخراً) والإسلاميين في طرابلس، لذلك لم يعد لسوريا أيّ من ملامح سيادة. وإذا استمر النظام بسياساته الراهنة، فإنّ الأزمة سائرة نحو المزيد من التدخل الخارجي». وكخلاصة لموقفه «المستقل عن أي تجمع معارِض»، مثلما يحرص كيلو على توضيحه، فإنّ «النظام لم يكن يملك يوماً شرعية داخلية، بل استند إلى المشروعيات الخارجية لبقائه، وعندما فقد هذه الشرعية الخارجية، لم يسعَ إلى اكتساب أخرى داخلية، بل حاول ولا يزال يحاول إعادة البحث عن غطاء أجنبي جديد، وبالتالي فإنّ ما نريده هو مساعدة عربية لحمايتنا وليس تدخلاً خارجياً». هنا يلتقي فايز سارة في الفكرة نفسها مع زميله كيلو، عندما يجزم بأن الشكل الوحيد المرفوض من التدخل الخارجي هو التدخل العسكري. والفكرة الأخيرة يمكن اعتبارها وصلاً لخطوط مع معارضي «المجلس الوطني» الذين يختصر غليون موقفهم في اعتبار أنّ «المجلس» على ثقة بأنّ الضغط الخارجي، على شاكلة مواقف وتصريحات وعقوبات وإرسال مراقبين عرب ودوليين وإعلام أجنبي، ضروري لحماية المدنيين أولاً، وليس لإسقاط النظام بما أن المهمة الأخيرة تبقى منوطة بالسوريين. لكنّ رفْض مسؤولي «المجلس الوطني» لأي تدخُّل عسكري، ليس محل إجماع بين أركانه مثلما بات معروفاً، وهو ما يفتح ملفاً آخر بشأن عدم اتفاق أركان «هذه المعارضة» إلا على هدف إسقاط النظام. فأحد الأطراف الرئيسة في المجلس، أي الإخوان المسلمون، خطابه مختلف تماماً عن تصريحات غليون وقُضماني مثلاً. من هنا لم يجد أركانهم، من فاروق طيفور ونجيب الغضبان ومراقبهم العام محمد رياض الشقفة مثلاً، حرجاً في إطلاق مواقف مناقضة لتلك التي يعلنها المتحدثون الرسميون باسم المجلس، إذ بهم يكثرون من التبشير بأن التدخل العسكري آتٍ، وأن تركيا سيكون لها دور في هذا السياق، وخصوصاً في مجال تطبيق حظر على الطائرات السورية الحربية وفرض منطقة معزولة من السلاح، ربما أملاً بالتمكن من خلق «بنغازي سورية» تكون منطلقاً لإسقاط النظام. غير أنّ ورقة التدخل العسكري يفهمها «الإخوان» بطريقة مختلفة عمّا يتعاطى معها معارضون آخرون كهيثم المالح، إذ إنّ الأحفاد السوريين لحسن البنا لا يزالون يلوّحون بالتدخل العسكري من باب التهديد، ويرون، على الأقل في تصريحاتهم العلنية، أنّه إذا واصل النظام حملته الدموية، فإنّ التدخل العسكري سيصبح حتمياً، لا بل إنهم (كحزب) سيطالبون به في حينها على قاعدة أنّه الوسيلة الوحيدة لخلاص السوريين.
وفي المؤتمر الصحافي المذكور لهيئة التنسيق وكيلو وسارة (اللذين أوضحا أنهما لا يمثلان الهيئة)، احتلّت مسألة «الحماية الدولية» حيّزاً واسعاً، بما أنها مسألة «سجالية ودقيقة» باعتراف الجميع. وهنا يشير سمير العيطة، متحدثاً باسم «هيئة التنسيق»، إلى أن السوريين «لا يريدون حلاً على الطريقة الليبية، لأنه حلّ مكلف بشرياً، وفي الوقت نفسه يؤدي إلى زوال السيادة السورية»، وهو ما ألزم العيطة بالتشديد على «اللاءات الثلاث» الشهيرة (لا للطائفية لا للتدخل الأجنبي ولا لعسكرة الانتفاضة) التي بات خصوم «هيئة التنسيق» يعتبرونها أداةً لتهرُّب «الهيئة» من رفع شعار إسقاط النظام من دون لبس.
ولأنّ مفهوم مبدأ الحماية الدولية وتطبيق أمر دقيق وحسّاس بالفعل، فإنّ أركان «المجلس الوطني» السوري يعملون جاهدين لإيجاد فذلكة جديدة غير مسبوقة لترجمته، بما يحقق الهدف المرجو منه، ألا وهو منع النظام من الاستمرار بقمعه من جهة، وتفادي التدخل العسكري على الطريقة الليبية من جهة ثانية، على حدّ تعبير بسمة قُضماني. وتلفت المتحدثة باسم المجلس إلى أنه «أمام هذه التعقيدات، يجب أن نجد أشكالاً أخرى من الدعم والحماية الخارجية بعيدة عن التجربة الليبية، وحتى الآن لا جواب لدينا عن هذه المسألة، والوضع صعب لأن مبدأ حماية المدنيين طُبِّق في ليبيا للمرة الأولى في التاريخ، وهو المبدأ الذي دخل حديثاً إلى الأمم المتحدة عام 2005. لكن يجب أن نخترع أشكالاً أخرى لتطبيقها في سوريا من خلال النظر إلى سوابق تاريخية بدل التدخل العسكري على الطريقة الليبية، أكان بما يتعلق بمناطق محمية أم ممرات إنسانية (corridore humanitaire) أم أمور أخرى، وهذه لا مكان فيها للعامل العسكري، أو هي بعيدة عنه في مقابل أنها تحقق حماية للمدنيين، رغم أنها قضايا لا تزال غير واضحة، ونحن نستشير حالياً كل الخبراء والقانونيين الذين عملوا على هذه المواضيع في أوروبا الشرقية وأفريقيا وفي الأمم المتحدة، لأننا بحاجة إلى إيجاد صيغة تتلاءم مع الوضعية السورية الحساسة التي لا تتشابه بشيء مع الوضعية الليبية». أما عن رأيها في السبب الذي يدفع بأطراف متحالفة معها، كالإخوان المسلمين، إلى رفع شعار التدخل العسكري علناً، فإنها تعيد ذلك إلى رغبة «الإخوان» في «التناغم مع موجة الشارع الذي يريد تدخلاً عسكرياً»، قبل أن تستدرك بأنّ على المجلس الوطني أن يخرج بحل وفاقي بشأن هذه المسألة: «نعرف أن الشارع يريد التدخل العسكري الذي نرفضه نحن والمجتمع الدولي معاً».
وكلام قضماني عن أن السوريين المنتفضين في الداخل هم من يريدون تدخلاً عسكرياً يخلّصهم من نظام الأسد، ويضغطون على «المجلس الوطني» لرفع هذا الشعار، يفتح على تناقضات إضافية؛ يجزمون في باريس بأنّ الناس الذين يتظاهرون في الشوارع أدرى بالوضع الميداني من سواهم، وهم حسموا أمرهم، وفهموا أنه لا يمكن إسقاط النظام من دون تدخل عسكري. فرضيّة يؤكّدها البعض ممن مرّت على نفيهم في باريس عقود، حتى إنهم يصلون إلى حدّ التأكيد أنّ «سبب إنشاء المجلس الوطني كان مجرّد إيجاد طرف يطلب تدخلاً خارجياً وحماية دولية». وفي حين يجزم الناشط نفسه بأن الداخل يريد التدخل العسكري، إلا أنه يوضح أن التلويح بالتدخل الخارجي هو ورقة وتهديد، «لأنه عندما يشعر النظام بأن الخارج يريد التدخل، فسيسقط». هكذا، إن صحّ التقدير بأنّ المتظاهرين السوريين يريدون فعلاً تدخلاً عسكرياً، تكون المعضلة كبيرة؛ إن لم تطالب أطراف المعارضة بهذا التدخُّل، يكونوا في موقع مَن لا يعكس مطالب الثورة السورية وروحها. أما إن طالب المعارضون علناً بالتدخل العسكري، مهما اختلفت التسمية من حماية دولية أو حماية مدنيين، فإنّهم سيكونون بالنسبة إلى شريحة كبيرة من السوريين وغير السوريين كمن يحرّض على تدمير بلاده وربما احتلالها، ما دام الجميع متفقين على أنّ «المجتمع الدولي» في النهاية اسم حركي للمصالح الغربية عموماً، وأنّ ما قد يبدأ بخطوات بسيطة تحت شعار حماية المدنيين في دولة حساسة كسوريا، يمكن أن يتحول بسرعة إلى مشروع قتل وتقسيم أو عدم استقرار وهيمنة وإعادة رسم لخريطة المنطقة.



«يلعن أبوك أنا مش إسرائيلي»

في كل مناسبة يجتمع فيها معارضون سوريون مع الإعلام الأجنبي، يكون جزء من الأسئلة والاهتمامات متمحوراً حول «منسوب العروبة» في عروق المعارضين السوريين والموقف المحتمل من إسرائيل في حال سقوط النظام السوري. وأمام هذا النوع من الاستفسارات التي يرى فيها معارضون تاريخيون «استفزازاً»، تأتي إجابات البعض لتختصر الموقف بشكل نكتة. على سبيل المثال، سرد ميشال كيلو، في المؤتمر الصحافي الذي عقده في باريس الثلاثاء 11 تشرين الأول الجاري، سالفةً روى فيها كيف أنه كان يلعب مرةً مع ابنه الذي كان يبلغ من العمر 5 سنوات. لعبة تقوم على أن أحدهما يجب أن يلحق بالآخر ليقبض عليه، وعلى الثاني الهرب من الأول والاختباء منه. ولأنّ هذه اللعبة تقوم على مبدأ إيجاد الحافز القوي لكي يمنع الولد والده من العثور عليه، قال ميشال لطفله «فلنعتبر أنني أنا العربي وأنت الإسرائيلي»، عندها رفض الطفل تقسيم الأدوار هذا، وأجاب والدَه «يلعن أبوك. لأ أنا مش إسرائيلي، إنتَ الإسرائيلي».