تونس | دائماً ما كانت العلاقة بين الريف والمدينة متباعدة من حيث العقلية وطريقة العيش بين حضارة المدينة وازدحامها، وبساطة أهل الريف وخلائه. لكن انتخابات المجلس التأسيسي في تونس بيّنت أن تلك النظرية أصبحت بالية، ولا تستجيب لقوانين الوقت الحاضر، فنتائج الانتخابات أظهرت أن المدينة والريف في تونس متقاربان في طريقة التفكير، خصوصاً أن الثورة المعلوماتية غزت الريف والمدينة ومنذ مدة معقولة لتترسخ في «العقل الباطن للمجتمع».تلك هي أهم ما أنتجته ثورة المعلومات في تونس، قربت ما بين الريف والمدينة وكذلك بين التونسيين المقيمين بالخارج ومواطنيهم في الداخل التونسي، من حيث العقلية وطريقة التفكير، وخصوصاً أن ثلاثة أرباع المجتمع التونسي من الشباب أغلبهم طلبة، أكثرهم قادمون من الريف للدراسة في المدينة، وهم من كانوا وراء ازدهار المعلوماتية ووصولها إلى المناطق الداخلية للبلاد. ولعل ما حصل لمحمد البوعزيزي ووصول صورته الأولى وهو يحرق نفسه خير دليل على ذلك، فلولا الفايسبوك ووصوله إلى منطقة سيدي بوزيد الفلاحية داخل البلاد التونسية لما قامت ثورة 14 كانون الثاني. النتائج الانتخابية تبين جيداً أن حركة النهضة كانت الأولى على جميع الدوائر الانتخابية في المدن والدوائر الانتخابية في المناطق الداخلية، يليها حزب المؤتمر من أجل الجمهورية. وهذا يبين جيداً أن الحملة الانتخابية لكلا الحزبين لقيت صدىً جيداً لدى الفئتين الحضرية والريفية في تونس. ويشير باحث في علم الاجتماع، في مداخلة لإحدى وسائل الإعلام المحلية، إلى أن كثافة الإقبال تفسر أولاً تعطش التونسي للمشاركة السياسية والتعددية، مضيفاً «أن التونسي أحس لأول مرة أن لصوته قيمة» خاصة وأنها أولى الانتخابات «التي لا يدفع إليها التونسي دفعاً ولا يجر إليها جراً». ورغم ما شاب الحملة الانتخابية من «حملات تخويف» من الاسلامي والسياسي والسلفية و«الدخول في دوامة عنف سلفية»، كان السلاح المستعمل «ذا حدين» وساعد النهضة على الوصول إلى تحقيق نسب تصويت عالية. لكن أستاذ علم الاجتماع ماهر تريمش، كان له رأي آخر حول موضوع تقارب نسبة التصويت بين الريف والمدينة، حيث قال لـ«الأخبار» إن البعد الأخلاقي الثقافي والصور الاجتماعية ذات البعد الثقافي هي التي كان لها الأثر الكبير في عملية التصويت». وأكد أن التصويت في انتخابات المجلس التأسيسي كان تصويتاً على أساس ثقافي ولم يكن على أساس سياسي، مضيفاً أن عامل «الثقة» كان له الأثر البارز في تلك العملية، وهو مايفسر إلى حد بعيد التقارب الذي جمع التونسيين بريفهم ومدينتهم في نتيجة التصويت. كلام تريمش يدل على أن التونسيين ذهبوا للتصويت على «الهوية التونسية» ولم يذهبوا للتصويت على الديموقراطية، وأن البرامج الانتخابية التي طرحتها حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية هي التي أدت إلى بروز صورة نمطية في الخيال التونسي بوصفها مدافعة عن هوية وتراث وطنيين ضمن النسيج العربي الإسلامي، وهو ما بدأت الحركة الإسلامية في الترويج له منذ 14 كانون الثاني، حيث توجهت الحركة للجميع بخطاب «طمأنة وغزل»، ولم تدخل في سجالات مع أي حكومة ولم تطالب بحل التجمع والبوليس السياسي، ما جعلها تستقطب، بالإضافة إلى قواعدها التقليدية التاريخية، وجوهاً من بقايا التجمع والمستقلين والليبراليين، مما جعلها تخوض الانتخابات عن طريق قنوات متعددة. وبالنفَس ذاته لعب المؤتمر من أجل الجمهورية على المنحى الثقافي لدى التونسي لما بدأت معركة الحداثة والرجعية تطرح منذ الأيام الأولى من الثورة، وهي نقطة جعلت الأحزاب ذات المنحى الإيديولوجي العلماني تضيع وسط ارتباط وثيق بالهوية. وإلى جانب التأثير الثقافي الذي طغى على عملية التصويت، كان للمنحى الاجتماعي أثر بالغ في عمليات الدعاية الانتخابية التي مارستها الحركة والمؤتمر داخل المناطق، والذي كان له صدى كبير في صناديق الاقتراع وخاصة عمليات الزيجات الجماعية التي نظمتها النهضة إضافة إلى التحركات الاجتماعية ذات الأجندة السياسية التي مارسها «مؤتمر المرزوقي» في المحافظات، والمرونة الكبيرة في الخطاب السياسي ومحاولة الابتعاد عن المحاججة بالدين على المنابر التلفزيونية والإذاعية. هذا الزخم السياسي كان له الأثر الكبير على الصورة الرمزية للحزبين في المدينة والأرياف على حد السواء، إلا أن قائمة «العريضة الشعبية»، لزعيمها الهاشمي الحامدي، مثلت مفاجأة كبيرة لدى جموع التونسيين. ومارس الأخير تأثيراً كبيراً من خلال استغلال قضية خطيرة برزت في تونس بعد الثورة وهي قضية «العروشية» (القبلية) كما يشير بعض المتابعين للشأن السياسي التونسي. فالحامدي، المنحدر من منطقة سيدي بوزيد، استطاع تمرير أجندة سياسية عبر تجنيد «أبناء العمومة» في كل أنحاء الجمهورية. ويشير محمد عبيد، وهو أحد سكان مدينة صفاقس، إلى أن أحد رؤساء حملة الحامدي الانتخابية جاء من سيدي بوزيد وعرض على سكان في المدينة من الذين تعود أصولهم إلى سيدي بوزيد التصويت للحامدي «ابن العم»، ولأن برنامجه سيمنح لـ«المحرومين من التنمية» روحاً جديدة، ما كان لتلك الكلمات إلا أن اتجهت بالعريضة الشعبية إلى الفوز بمقعد في الدائرة الانتخابية الثانية بالولاية (المحافظة). هذه الفكرة كانت حاضرة كذلك في مداخلة الدبلوماسي التونسي السابق عبد الله العبيدي لـ«الأخبار»، الذي أكد أن الفترة الانتقالية الماضية تسببت في بروز تلك النزعة القبلية بعدما خفت القبضة السياسية الحكومية، ما سمح ببروز «فقاقيع» اجتماعية خطيرة برزت في المتلوي والرديف وسبيطلة (مدن في الأرياف التونسية) وهي الآن تبرز مع «عريضة الحامدي».


«النهضة» تحصد 90 مقعداً وإلغاء قوائم «العريضة»





تونسية من أنصار حزب النهضة أمام مقره أول من أمس (فتحي بيلايد ــ ا ف ب)


انتهى الانتظار التونسي مساء أمس، مع إعلان النتائج النهائية للانتخابات التي أظهرت فوز حركة «النهضة» بـ 90 مقعداً في المجل التأسيسي من أصل 217 مقعداً حسم الأمر، وما كان تسريبات ونتائج جزئية أضحى واقعاً مع إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات للنتائج النهائية التي كرّس حركة «النهضة» صاحبة الكتلة الأكبر في المجلس، مع حصولها على 90 مقعداً من أصل 217. غير أن المفاجئ كان الغاء فوز ست قوائم تابعة لـ «العريضة الشعبية» بزعامة الهاشمي حامدي بسبب وجود مخالفات، على أن تتم اعادة احتساب نتائج الدوائر المعنية في ضوء اسقاط هذه القوائم. الرد جاء سريعاً من حامدي، الذي أعلن الانسحاب كلياً من المجلس التأسيسي، ما قد يعيد خلط الاوراق مجدداً، ويعطي حركة «النهضة» أكثر من 50 في المئة من مقاعد المجلس، في وقت شهدت بعض المناطق التونسية تظاهرات احتجاجية على قرار الهيئة. وأعلن رئيس الهيئة الانتخابية كمال الجندوبي، مساء أمس، عن فوز حزب النهضة الاسلامي بـ 90 مقعداً (41,47 بالمئة). وحل حزب المؤتمر من اجل الجمهورية، بزعامة المنصف المرزوقي، ثانيا وحصل على 30 مقعداً (13,82 بالمئة) يليه التكتل الديموقراطي من اجل العمل والحريات بزعامة مصطفى بن جعفر بـ21 مقعداً (9,68 بالمئة). وحلت قائمات «العريضة الشعبية» بزعامة الهاشمي الحامدي، في المرتبة الرابعة وحصلت على 19 مقعدا (8,76 بالمئة) وذلك بالرغم من اسقاط ست من قائماتها بسبب مخالفات مالية او لعلاقة بالحزب الحاكم سابقاً. وحل الحزب الديمقراطي التقدمي بزعامة نجيب الشابي خامسا بـ 17 مقعدا (7,83 بالمئة). إلا إن النتائج لا تزال مفتوحة على تعديل، ولاسيما بعدما أوضح عضو في الهيئة العليا المستقلة للانتخابات أن إعلان النتائج النهائية لانتخابات المجلس التأسيسي قد يستغرق أسبوعين إذا ما أحيل عدد مرتفع من الطعون الجدية على المحكمة الإدارية. وأفاد في تصريح للصحافة بأن الهيئة تتوقع أن تتلقى عدداً كبيراً من الطعون، منها ما هو جدي ومنها ما هو دون ذلك، ملاحظاً أن الملفات الجدية ستحال على المحكمة الإدارية للنظر فيها. وبيّن أن الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ستفتح باب الطعون في النتائج الجزئية الأولية بعد مرور 48 ساعة على إعلان كامل النتائج الأولية. «النهضة» لم تكن تنتظر النتائج، التي كرستها الكتلة الأكبر، لبدء إعداد المشهد السياسي في البلاد، إذ بدأت بالفعل في حوارات مع أطراف سياسية أخرى لتشكيل حكومة انتقالية ثانية برأسين، رأس الحكومة الذي سيكون حمادي الجبالي، الأمين العام للحركة، كما صرح هو بذلك، ورئيس الجمهورية الذي لا يزال أمره غير محسوم، وخاصة أنه يبدو أن النهضة قد رفعت «فيتو» ضد تعيين الباجي قائد السبسي رئيساً للدولة. وأشارت مصادر قريبة من حركة النهضة الى أن الحركة لا «تحبذ أن يكون القائد السبسي رئيساً للجمهورية في المرحلة المقبلة». وقالت إن زعماء الحركة «يفضلون وجوهاً جديدة لتكون على رأس السلطة في المرحلة التأسيسية». وأضافت المصادر لـ«الأخبار» إن الحركة اقترحت أسماء أخرى لتحل محل السبسي، منها اختيار رئيس من بين «الحليفين المرتقبين مصطفى بن جعفر، الأمين العام للتكتل الديموقراطي، أو الأمين العام للمؤتمر من أجل الجمهورية، منصف المرزوقي»، أو الاتجاه إلى زعماء تاريخيين آخرين، منهم على سبيل المثال «مصطفى الفيلالي أو أحمد بن صالح أو أحمد المستيري»، موضحين أن الأخير يتمتع بحظوظ أكبر من الحركة. تأتي هذه الأنباء في وقت قال فيه مصدر آخر لـ«الأخبار» إن «اقتراح السبسي في منصب الرئيس» جاء بعد زيارته الأخيرة للولايات المتحدة، وإن الإدارة الأميركية اقترحت ذلك بعدما جسّت «نبض الشارع التونسي» أيام الحملة الانتخابية، وتأكدت من فوز حركة النهضة، وإن اقتراح السبسي جاء ليكون «كثقل توازن» للحركة في السلطة. وفي السياق نفسه، أكد رئيس حزب التكتل من أجل العمل والحريات، مصطفى بن جعفر، أن مسألة توليه رئاسة الدولة المؤقتة أمر غير مطروح داخل الحزب ولم تناقش أبداً. وأضاف إن الموضوع الذي يناقش الآن، بصفة عاجلة مع المكتب السياسي للحزب وقواعده، هو الدخول في الحكومة المؤقتة من عدمه.


نزار ...