«ليبيا تحرّرت»، أعلنها مصطفى عبد الجليل من بنغازي ومضى... ليبيا ساحة مفتوحة من دون دستور ولا حكم ولا نظام. أرض غنيّة، واسعة، واستراتيجية، شُرّعت لدول أجنبية ولقوات «حلف شمالي الاطلسي»، ولمتمردين مدججين بالسلاح. فرحة التخلص من الطاغية جاءت مشوّهة بطريقة قتله وبأعداد القتلى المتصاعدة من الطرفين، تفرّد رئيس المجلس الانتقالي بإعلان بعض أسس النظام قبل وضع دستور جديد والدعوة الرسمية إلى بقاء القوات الاجنبية في ليبيا إشارات لا تبشّر بالخير. المشهد السياسي الليبي مفكّك، فيما تقاسم المغانم جارٍ على قدم وساق... أما إحلال الديموقراطية فيبدو أنه ليس من أولويات أحد الآن.

بعد أفغانستان والعراق ها هي ليبيا تحتلّ، على مدى سبعة أشهر، قلب النقاشات الاعلامية والتحليلات الصحافية، كجبهة حرب ثم كانتصار ثمين. حالياً، الكل يتكلم عن كل شيء. الحيرة والفوضى هما سيدا الموقف في الإعلام الأميركي والبريطاني: نفط، سلاح، حدود بحرية، أفريقيا، إسلاميون، استثمار، عسكر، وسياسة دولية... لكن الأكيد الوحيد هو: سقوط أكثر من ٥٠٠ قتيل خلال ١٠ أيام في سرت وحدها، كما ينقل مراسل «ذي غارديان». منظمة «هيومن رايتس ووتش» أعلنت عن ٥٣ جثة أصحابها من الجيش الليبي والمدنيين أعدمهم الثوار، وتقارير ميدانية تفيد بحصول إعدامات جماعية، تعذيب، اعتقالات وقتل عنصري... سرت، مدينة كبيرة حوصرت على مدى شهرين ودمرت بمئات القذائف «الأطلسية» حتى باتت تشبه مدينة غروزني، كما ورد في مقال «ذي غارديان».

الخسائر والأرباح

أما طريقة مقتل القذافي فلا تزال تلقي بظلالها على اللعبة السياسية الحالية في البلاد. بعض المراقبين يحذرون المجلس الانتقالي من تحويل القذافي الى شهيد وطني، وخصوصاً عند الفئة الشعبية التي بقيت على الحياد في خضم المعارك (علماً أن الاعلام الغربي تجاهل وجود محايدين طوال فترة تغطيته للحرب). «تحديات داخلية كبيرة بين مواطنين عاشوا على نظرية المؤامرة طوال عشرات السنين، وبين من لن يتخلى بسهولة عن صورة الزعيم القائد الأخ، وخصوصاً اذا كان البديل فراغاً أمنياً». هذا ما حاول الاشارة اليه باراك بارفي في مجلة «ذي نيو ريبابليك» الاميركية.
وفي ما يشبه جردة حساب، يستنتج دوغ بانداو في مجلة «ذي ناشيونال إنترست» أن تكاليف حرب ليبيا تفوق مكتسباتها. فهي، حسب الكاتب، فشلت في «حماية الليبيين» وهو الهدف المعلن منذ البداية. بانداو يشير الى استمرار المعارك حتى بعد موت القذافي، وبعضها لا يزال يدور في طرابلس، ويسأل عن جدوى استمرار غارات وقصف طائرات الاطلسي للمدن الليبية بعد شل المقاتلين الموالين للقذافي. وبالإضافة الى «عشرات آلاف» القتلى الذين سقطوا خلال هذه الحرب، يشير الكاتب الى اعتراف قادة «الأطلسي» بأنهم «فوجئوا» بالمقاومة الشرسة والطويلة الامد التي واجهوها من قوات القذافي. ويستنتج أن كل هذه الامور ستضعف من صدقية الدول المشاركة في الحرب وتقلل من الفرص الاميركية بإقناع المجتمع الدولي في جدوى خوض حرب اخرى، ما سيعطي المجال لباقي الطغاة بالاستمرار في الحكم.
«حرب ليبيا كانت حملة القرن الواحد والعشرين لمعاقبة عائلة القذافي»، يعلق ريتش لوري في «ناشيونال ريفيو أونلاين». وفيما يؤكد لوري أنه كان «من الافضل لو تولى المتمردون إنهاء الامر بأنفسهم»، يردف «يبدو أن إدارة أوباما تنجح في القتل أكثر من الدبلوماسية». الكاتب يقول إن «الليبيين لم يحصلوا على حريتهم بعد. فالحرية الحقيقية هي بإحلال النظام وبناء مؤسسات تمثيلية عادلة، وهو أمر أصعب بكثير من قتل ديكتاتور برصاصة في رأسه بمؤازرة قوى عسكرية دولية». لوم آخر لأوباما وجهه سكوت هورتون في ما يخص «الوعود بعدم تكرار التجارب السابقة وترك العدالة تسود وتحكم»، فيما لا شيء من ذلك نفذ بعد، وخصوصاً بعد «خوض الحرب الليبية الخاسرة».

سوق سلاح و«أفريكوم»

لكن ماذا عن المكتسبات؟ طبعاً، لن يكشف الاعلام عن كواليس تقاسم الكعكة الليبية بين مختلف الدول العربية والغربية الآن، لكن الكلام الذي يردد منذ سقوط نظام القذافي هو حول السلاح الموجود في ليبيا. هنغارات من السلاح الخفيف والثقيل، مخازن من القنابل والصواريخ والقاذفات، التي كان يملكها الجيش الليبي، إضافة الى تلك التي زوّدت بها كل من فرنسا وبريطانيا المتمردين، وقعت في أيدي مجموعات ليبية في مختلف أنحاء البلاد، يكشف تقرير «لو نوفيل أوبسيرفاتور». والمجلة تضيف أن «المقاتلين الليبيين لا يريدون تسليم السلاح الذي بحوزتهم»، ما ينذر باستمرار أعمال العنف في الفترة المقبلة. التقرير يشير ايضاً الى عمليات تهريب سلاح ضخمة اخترقت الحدود الليبية الى بلدان مجاورة و«أحيت سوق السلاح الكبيرة». حتى أن منظمة «هيومن رايتس ووتش» راقبت خروج شاحنات مليئة بالذخائر والسلاح والصواريخ على أنواعها من سرت بقيادة الثوار، لتكتشف لاحقاً أن سرت كانت مخزناً كبيراً لسلاح القذافي وتمّ الاستيلاء عليه وتفريغه. الجزائر، مالي، موريتانيا والنيجر، من جهتها، أبدت قلقاً من وصول السلاح اليها عبر الحدود المشتركة وقيام المجموعات المتطرفة، كتنظيم «القاعدة» بشراء كميات كبيرة منها.
«من الناحية التجارية، احداث ليبيا تعدّ أفضل النماذج»، يعلن لوران كولي ـ بيون، المندوب الفرنسي العام لشؤون التسليح في ٦ أيلول الماضي، كما تنقل صحيفة «لو موند». حوالي ٩٠ مليون يورو بلغت أرباح صادرات السلاح الفرنسي الى ليبيا عام ٢٠١٠ (بينما بلغت ٤٠ مليوناً لمصر و٥٥ مليوناً لتونس)، كما تكشف الصحيفة.
أما من جهة المسؤولين الاميركيين، فلعل ما أدلى به قائد قاعدة العمليات العسكرية الاميركية في أفريقيا (أفريكوم) في أوائل الشهر الجاري، الجنرال كارتر هام، يكشف جزءاً من المصالح الاميركية المكتسبة بعد حرب ليبيا. الجنرال الاميركي الذي عيّن قبيل بدء الحرب، يشرح خلال ندوة في «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» في واشنطن، عن أهمية ليبيا بالنسبة إلى السيطرة الاميركية على القارة الافريقية.
القائد العسكري، الذي خدم في السعودية وقطر والعراق قبل ليبيا، تكلم عن «ضرورة تقديم المساعدة الاميركية لبعض الدول الافريقية، وخصوصاً الامنية والعسكرية منها، لمساعدة الأفريقيين على تولي أمورهم بأنفسهم على المدى الطويل». هام أشار الى مهمته في مواجهة التهديدات التي تشكلها مجموعات «تنظيم القاعدة في شرق أفريقيا» في نيجيريا والصومال خصوصاً، و«القاعدة في بلاد المغرب». لذا، يقول إنهم يعتمدون في معركتهم هذه على شركائهم الافريقيين وعلى الامن البحري. ومن هنا تأتي أهمية ليبيا الجديدة، والجنرال الاميركي لا ينسى توجيه الشكر الى سلفه الذي «كانت لديه رؤية بأن شيئاً ما سيحصل في ليبيا... فأنشأ قوة العمليات المشتركة قبل بدء أي تحرك في البلاد». «نحن بحاجة الى شركاء أمنيين نتبادل معهم التقارير الامنية والاستخبارية، وخصوصاً في ما يتعلق بالحدود والمجال البحري (...) هناك عمل كبير ينتظرنا على الحدود الليبية مثلا لضبط تهريب السلاح». لكن هناك ما يؤرق الجنرال هام، وهو كيفية التنسيق المستقبلي مع قوات «الأطلسي»، أين سيكون نطاق عمل هؤلاء؟ هل سيبقون هنا؟ ما هو نوع مهماتهم؟ هام، لا يخفي أيضاً قلقه من تواجد الصين الكثيف والمهم في كافة الدول الافريقية لكنه يطمئن «هم لا يتفوقون علينا في الامن والقوة العسكرية».



«متمردون للزواج»

في تحقيق بعنوان «ثورة ليبيا الجنسية»، تكشف إيلين نيكماير من مجلة «فورين بوليسي» عن وجه آخر من تداعيات الحرب الليبية على أهل البلد. هنا، المتمردون الشباب باتوا صورة الرجل البطل الذي تريد النساء أن يتزوجنه. عدد من الشبان الذين شاركوا في الحرب يروون لنيكماير بفخر وسرور كيف «باتت الفتيات يستوقفنهم ويهنئنهم وينادينهم بالابطال». أما بعض الليبيات فشرحن كيف تبدلت صورة معظم الشباب الليبي من عاطلين من العمل مشردين في الشوارع لا مستقبل لهم الى رجال يحملون السلاح ويقاتلون ولديهم المال. الصحافية تظهر عيّنة من الرسائل الهاتفية التي تتناقلها الليبيات حالياً «إنسي الدكاترة والمهندسين، نريد أن نتزوج بمتمرد»، «هل تبحثين عن متمرد شاب للزواج؟»، «اضغطي على حرف «م» لمتمرد من مصراته، أو على حرف «ب» لمتمرد من بنغازي»... تحقيق «فورين بوليسي» يلقي الضوء أيضاً على نسبة الشباب الليبيين العاطلين من العمل والفرص المهدورة التي لم تتوفر لهم في عهد معمر القذافي، ما جعل مجرد التفكير بالزواج أمراً مستحيلاً عند البعض.