يعيد محلّلون ومراقبون كثُر تصاعد حمى النزعة الانفصالية في المنطقة العراقية الغربية وغالبيتها السكانية من السنة العرب (تحت شعار «الأقلمة») إلى عاملين اثنين: حملة اجتثاث المدرّسين في وزارة التعليم العالي، وحملة اعتقالات لضباط سابقين وأعضاء في حزب البعث المحظور. غير أنّ شبه إجماع يسود على مستوى الرأي العام يحمّل مسؤولية ما يحدث للاحتلال الأميركي الذي فشل في إقناع بغداد بالتمديد لجزء كبير من قواته، فبدأ بتفجير الألغام الطائفية خلفه. حملة الاعتقالات، كما سرّبت مصادر حكومية، جاءت بعد حصول حكومة نوري المالكي على وثائق سرية من الحكام الجدُد لليبيا تؤكّد أنّ «البعث» كان يعدّ للانقلاب عليها بدعم من معمر القذافي. جهات سياسية عديدة هاجمت الحملتين ولمحت إلى أنهما لا تخلوان من رائحة التمييز الطائفي. غير أنّ المالكي رد على هذه الادعاءات بالقول إن عدد المعتقلين في الجنوب («الشيعي») يفوق الذين اعتقلوا في المنطقة الغربية (السنية).
والحديث عن الإقليم السني ليس جديداً، لكنه تصاعد مع اقتراب رحيل قوات الاحتلال المرتقب بنهاية العام الجاري، وهو ما دفع ببعض المعلّقين إلى القول إنّ إتمام الانسحاب سيجعل أصدقاءه في المنطقة الغربية مكشوفين وفي موقف المستهدف الضعيف. اتخذ مشروع «الإقليم السني» هنا منحى مختلفاً: بادر المجلس المحلي لمحافظة صلاح الدين ومركزها تكريت، مسقط رأس الرئيس الراحل صدام حسين، واتخذ قراراً بأغلبية ساحقة لإعلان المحافظة إقليماً مستقلاً إدارياً واقتصادياً. المبررات المباشرة التي سيقت استندت إلى اعتقال الضباط والحزبيّين البعثيين ونقلهم إلى بغداد، وهو ما كان يستحيل حدوثه لو كانت صلاح الدين إقليماً. إلا أن بعض القانونيين رأوا أن ليس من حق المجلس المحلي لأي محافظة اتخاذ قرار كهذا، لأن الاجراء المطلوب لهذا الأمر محصور بحق ثلث أعضاء المجلس أو عُشر الناخبين للدعوة إلى إقامة الإقليم وإجراء استفتاء عليه. ويبدو أن محافظ نينوى، ومركزها الموصل، شعر بالغيرة من صلاح الدين، فهدّد بأن المحافظة ستعلن نفسها إقليماً أيضاً، وهو ما سبق أن أعلنه الشيح أحمد أبو ريشة، زعيم حركة الصحوة، عندما لوّح بأن محافظة الأنبار تدرس حالياً هذه الإمكانية. ردود الأفعال على هذه التطورات تنوعت بشدة: نائب من كتلة المالكي، هو جواد البزوني، أيد قرار مجلس صلاح الدين لأنه «سيحل الكثير من مشاكل المحافظة»، بعكس تعليق المالكي الذي جزم بأنّ مجلس الوزراء سيرفض القرار المذكور لكونه «قائماً على خلفية طائفية ولحماية البعثيين وخلفيات أخرى غير واضحة». وفيما وصف المالكي محافظة صلاح الدين بأنها «نار تغلي تحت الرماد»، حذّر من أن هذا المشروع «سينتهي إلى تقسيم غير دستوري، ومن حقنا أن نعارضه لأنه سيتبعه تهديد بقطع المياه والطرق بين بغداد والموصل وكردستان وهذه مقدمات للانفصال».
في المقابل، جاءت المفاجأة من حزب البعث المحظور، بجناحيه الدوري والأحمد؛ فمع أنّ قرار مجلس صلاح الدين وتحركات الساسة العرب السُنة في المحافظات الأخرى جاء بوحي من التضامن مع الحزب بوجه حملة الاعتقالات الحكومية بحق رموزه، شنّت وسائل إعلام الحزب حملة شعواء على المشروع؛ فقد اتهم الحزب عرّاب فكرة الاقليم السني، رئيسَ البرلمان أسامة النجيفي، ورجل الأعمال الأنباري خميس الخنجر، المموِّل الرئيس لقائمة «العراقية»، ونائبَ الرئيس طارق الهاشمي، ورجل الأعمال سعد البزاز، بقيادة «مشروع خطير لتقسيم العراق طائفياً». وكان لافتاً أن «البعث» برّأ إياد علاوي وصالح المطلك. وذهبت بعض المصادر والأقلام البعثية بعيداً في رفضها وتنديدها بهذا المشروع، بدليل أن صحيفة «الرشيد» الإلكترونية البعثية وصفت أولئك المسؤولين المتنفذين في مجلس محافظة صلاح الدين بأنهم «ذوو تاريخ أسود وعملاء، خانوا الرئيس الأسبق صدام حسين الذي جعلهم أسياداً على العراق، وهم اليوم يخونون العراق». ومن ناحية المواقف، فإنّ أصواتاً عديدة من داخل «التحالف الوطني» الحاكم أيّدت حملة اجتثاث الأساتذة والضباط البعثيين، وزاد عليهم زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر، داعياً إلى المزيد من إجراءات الاجتثاث، مع حثّ مجلس صلاح الدين إلى التراجع عن قراره.
ويرى كثر أن تفاصيل المشهد العراقي تكشف صورة أخرى جوهرها أن الساسة العرب السُنة، الذين باشروا تنفيذ مشروعهم للأقلمة، قاموا، ودون أن يقصدوا ربما، بتشكيل إقليم طائفي موحَّد للشيعة في الوسط والجنوب، بعدما كانوا في الماضي يصفونه بـ«المؤامرة الكارثية التي تدعمها إيران المجوسية». عملياً، بدت الصورة كالتالي: الأكراد يتمتعون بإقليم مستقل فعلياً منذ عقدين تقريباً، والأقاليم السُنية الثلاث ستكتمل قريباً. هكذا، ستبقى المحافظات الوسطى والجنوبية التسع ذات الغالبية العربية الشيعية في حالة إقليم موحَّد بواقع الأمر، ولا ينقصها إلا القرار والإجراءات التنفيذية. هذا الأمر هو ما أبهج الكثيرين من الطائفيين الشيعة بعدما اختنق مشروعهم القديم لإنشاء إقليمهم الطائفي والذي دعا إليه زعيم المجلس الإسلامي الأعلى الراحل عبد العزيز الحكيم في السنوات الأولى من الاحتلال.
على مستوى النخبة، يعوّل كثيرون على أنّ حقائق الواقع العراقي، ومنها التوزيع الجغرافي غير المتوازن للثروات الطبيعية، والتاريخ المشترك عميق الجذور للعراقيين العرب الذين يشكلون أكثر من 80 في المئة من السكان، قد تقنع الغالبية العظمى بالسير في طريق الحوار والاندماج وإطفاء الحرائق التي سيشعلها أصدقاء الاحتلال بعد انسحابه، والتخلي عن العقلية الثأرية والإقصاء الطائفي من جهة، وعن عقلية الدفاع عن التراث القمعي للحكم البعثي ورموزه من جهة أخرى، وإلا فسيظل الموتى يحكمون ويتحكّمون بالعراقيين الأحياء من وراء قبورهم، ويتسبّبون في إشعال المزيد من الحرائق.



إغراءات ومحاذير الاقليم الشيعي


يعتقد محلّلون أنّ العامل المغري لدعاة الإقليم الشيعي هو أنه يضم المحافظات النفطية الثلاث الكبرى: البصرة والناصرية والعمارة، ومعظم المحافظات الزراعية الأكثر تخلُّفاً في بنيتها التحتية على مستوى العراق، وفي معاناتها خلال عهد النظام السابق. غير أن عامل الإغراء هذا قد يتحول سريعاً إلى عامل تنفير للكثيرين من ساسة وجماهير المنطقة الغربية، ويدفعهم إلى التروّي والتعقُّل ورفض مشروع الأقلمة، إذ إنّ أحداً لن يضمن لهم في المستقبل تقاسماً متساوياً للثروة النفطية والغازية إذا ما قرروا الانعزال بإقليمهم عن الجنوب الغني. إضافة إلى ذلك، فإنّ المناطق الغربية مناوئة تقليدياً لفكرة الأقاليم والتقسيم، وهي ذات تراث سياسي قومي. صحيح أن حملات الاعتقال والاجتثاث كانت مؤذية وظالمة في معظمها، لكن الانعزال في إقليم لمجرد تفادي هذه الإجراءات لن يكون ثمناً معقولاً. هذا المعنى كرّره قيادي في أحد الأحزاب الإسلامية الشيعية في البصرة حين قال إن «إقامة إقليم من محافظة أو أكثر حق مكفول دستورياً، ولكن إذا أرادت جهات سياسية تحويل محافظتها إلى مملكة خاصة تعلّق فيها صور وأعلام صدام حسين وتستفزّنا في شهدائنا، فعليها أن تعلم أنّ السخاء القديم في توزيع عائدات نفط وغاز وزراعة الجنوب، سينتهي إلى الأبد».