بعد ٨ سنوات على غزو العراق، جاء قرار سحب الجنود الأميركيين من البلاد لينهي مظهراً من مظاهر الاحتلال، فيما الوجود الأميركي مستمر وفاعل في الاستخبارات والأمن والاستثمارات والنفط. خلال ثماني سنوات، كان العراق مادة إعلامية دسمة انشغل بها الإعلام الأميركي، الذي شارك ولا يزال في بروباغندا الحرب الرسمية التي تضعها الإدارة الأميركية، إن خلال عهد جورج والكر بوش أو حالياً مع باراك أوباما. معظم المؤسسات الإعلامية التي صفقت لقرار شن حرب على العراق عام ٢٠٠٣، والتي حاولت قدر المستطاع حجب الواقع المأسوي للعراقيين على مدى ثماني سنوات، ها هي الآن تنتقد الانسحاب، وصحافيوها يلومون أوباما على قراره.

لا شيء تغير إذاً في الخطاب الإعلامي الأميركي. لم يتعلم أحد الدرس. البعض اعترف فقط بفشل الحرب على العراق وعدم تحقيق الأهداف المعلنة، لكن الكل لم يتردد بالدعوة الى «عدم ترك الساحة» الآن والبقاء لمدة أطول. فييتنام أخرى؟ رفض الاعتراف بالهزيمة؟ أو خسارة ضخمة لا يمكن إخفاؤها؟ معظم المحللين لا يقرّون بالهزيمة ويصوّبون سهامهم على رئيس «ضعيف» لا يريد سوى شعار بطولي آخر يبني عليه حملته الانتخابية الجديدة.
بعد خطاب رئاسي عاطفي عن «نجاح المهمة في العراق» و«عودة الجنود الى الوطن برؤوس مرفوعة»، تركز النقاش الإعلامي الأميركي على انتقاد أوباما وسياساته والتحذير من ترك العراق الآن.
«أوباما وضع أحمر شفاه على وجه خنزير الحرب على العراق»، تعبير استخدمه روبرت دريفوس في مجلة «ذا نايشن»، ومعناه أن الرئيس أخفى الوجه البشع للحرب على العراق باستخدامه ماكياجاً تجميلياً خلال إعلان قرار الانسحاب. دريفوس انتقد ما جاء في خطاب إعلان الانسحاب، مثل اعتبار أوباما المهمة في العراق «ناجحة»، رغم مئات آلاف القتلى، وإنفاق حوالى تريليون دولار أميركي على الحرب، ونشوء حكومة عراقية شيعية موالية لإيران النووية وللرئيس بشار الأسد... «لا يمكن تسمية ذلك نجاحاً»، يرى دريفوس. الكاتب يعدد أسباباً أخرى تدل على عدم صوابية قرار أوباما، محذراً من انفجار حرب باردة تمتد من الحدود العربية ـــــ الكردية حتى مناطق السيطرة الإيرانية في الداخل العراقي. لم يتردد الكاتب بالإشارة أيضاً الى «سرور أوباما بالتخلص من العبء العراقي لاستخدام إنجاز الانسحاب شعاراً جذاباً في حملته الانتخابية، رغم أن ذاك القرار لم يكن من صنعه، بل هو ناتج من اتفاقية وقّعها بوش عام ٢٠٠٨.
«ويكلي ستاندرد» انقضّت أيضاً على أوباما من خلال مقال ذكّر بأن أولويات الرئيس الاستراتيجية لم تكن الانسحاب من العراق، كما أعلن في خطابه الأخير، بل «بمنح السيادة والاستقرار والحكم الذاتي للعراقيين، ودعم الاقتصاد العراقي، وبناء روابط مع الحكومة والشعب»، كما صرّح عام ٢٠٠٩. تلك كانت نظرية أوباما للعراق، أما الآن فقد حلت محلها نظرية الانسحاب، تضيف «ويكلي ستاندرد». مقال فريديريك وكيمبرلي كاغان أشار الى أن الانسحاب لم يكن أمراً محتماً أو واقعاً اضطر أوباما للرضوخ إليه، فالإدارة الأميركية، بنظرهما، لم تسعَ الى تأليف حكومة عراقية حليفة، بل كان همها الإسراع بتأليف حكومة توافقية لمناقشة قضية بقاء الجنود على الأراضي العراقية. وفي ما يشبه النعي والندب، خلص الكاتبان الى أن «زمن فرض الشروط الأميركية وتحقيق الأهداف والمصالح قد ولّى، وها نحن في زمن العودة الى المنزل».
عائدون الى العراق
«هو ليس وقت الاحتفال»، يقول ماكس بوت على موقع «كومنتري». الكاتب يشرح أنه «لعل الثابت الوحيد في التاريخ العسكري الأميركي هو أنه كلما طالت فترة وجود الجنود الأميركيين في بلد ما تزايدت فرص النجاح». ويضيف «كلما استعجلنا الرحيل تبخرت الإنجازات التي حققناها بعد معارك صعبة»، ومن بين الأمثلة التي يعطيها الكاتب على ذلك «الخروج المسرع من فييتنام في عام ١٩٧٢، أو من لبنان عام ١٩٨٣ أو من الصومال عام ١٩٩٣». لذا، رأى بوت في قرار سحب حوالى ٥٠ ألف جندي من العراق وإبقاء ١٥٠ فقط، «فشلاً معيباً في السياسة الخارجية الأميركية». لماذا القلق؟ يشرح بوت أن الساحة ستخلى للإيرانيين الذين سيحكمون سيطرتهم على البلاد بعد كل ما حققه الأميركيون هناك. لكن الصحافي الأميركي يحتفظ بفسحة أمل، إذ يقول إنه بعد إتمام الانسحاب في كانون الثاني المقبل، لا بدّ للإدارة الأميركية من أن تعيد فتح المفاوضات من أجل إرسال وحدة عسكرية مؤلفة من عشرة آلاف جندي على الأقل، «كقوات حفظ سلام، وكدعم للقوى الأمنية العراقية ولمكافحة العمليات الإرهابية». لكن «أمل» بوت يصطدم بعائق كبير، كما يشرح، إذ إن أوباما يبدو مصمماً على تحقيق مكاسب بسبب «إنهائه الحرب»، لا بسبب خطة طويلة الأمد لتحويل العراق الى ديموقراطية حقّة حليفة للولايات المتحدة.
بعد اعتباره كدليل على «فشل السياسة الأميركية الخارجية»، فإن ميغان أوساليفان ترى فيه «فشلاً استراتيجياً» أيضاً. في مقال في مجلة «فورين أفيرز»، تشرح نائبة مستشار الأمن القومي لشؤون العراق وأفغانستان في عهد بوش، كيف فشل أوباما ونائبه في جعل العراق مكسباً استراتيجياً دائماً. أوساليفان تلوم واشنطن على عدم الضغط من أجل انتزاع قرار حماية الجنود الباقين بعد الانسحاب، كما تلومها في الأصل على ترك بتّ مسألة عدد الجنود وحمايتهم للبرلمان العراقي. «لم يزر أوباما العراق منذ أشهر عديدة، ويبدو أنه لم يلتق البعثة العراقية خلال انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول الماضي»، تشير أوساليفان معترضة على كيفية تعاطي الرئيس مع المسألة العراقية. «أوباما بدأ إعلان قرار الانسحاب بعبارة وعدتكم في حملتي الانتخابية... وفي الرسالة الإلكترونية التي أرسلها الى ملايين المواطنين، لم يركّز الرئيس سوى على أكلاف الحرب وخسائرها من دون ذكر أي مكسب حققناه أو أي إنجاز نفتخر به أو أي تحديد لأجندة مشتركة مع السلطات العراقية كشريك لنا». المسؤولة السابقة في إدارة بوش تأبى أن تعترف بالهزيمة الكاملة، وتذكّر ببعض «النجاحات والإنجازات» التي حققتها الحرب على العراق، منها «بناء المؤسسات والبدء بتأليف حكومة قوية وتمثيلية، وتمتع العراقيين بفرص لم تكن موجودة في عهد صدام حسين» ... «كان على أوباما أن يضمّن هذه النقاط في رسالته الى الأميركيين» تختم أوساليفان.
لم نهزم... كل شيء بخير
المغالاة بتعداد الإنجازات الأميركية في العراق التي تقترب الى حدّ الخيال والبعد عن الواقع، ظهرت في مقال مايكل توتن في مجلة «نيو ريبابليك». تحت عنوان «لهذه الأسباب لم نخسر في العراق»، يشرح الكاتب كيف أن العراق اليوم مختلف كلياً عما كان عليه في السابق: «تنظيم «القاعدة» بات شبه موجود في البلاد، وأنه لا ميليشيات سنية أو شيعية تسيطر على المناطق، والحكومة العراقية لن تسقط مهما حاولت إيران جهدها لذلك. العراق لم يعد يمثّل خطراً على نفسه ولا على باقي دول المنطقة»، يخلص الكاتب ويتابع «ليس بإمكان أحد أن يقول إن الأميركيين أجبروا على الخروج من العراق تحت ضغط الرصاص. ليس بإمكان أحد أن يقول إن الولايات المتحدة خسرت». توتن يذهب بثقته تلك واطمئنانه الى أقصى الحدود، فهو يرى أنه إذا سعت «جهات إرهابية لزعزعة استقرار العراق»، فالقوات العراقية المدربة جيداً على أيدي الأميركيين ستعرف كيف تردّ. أما إذا هجمت إيران على العراق، فإن العراق سيردّ أيضاً لكن بموازاة الولايات المتحدة التي ستتدخل لمنع أي اختراق للقوانين الدولية والسيادة العراقية.



أميركا باقية بعد الانسحاب

مايكل نايتس، في مقال حسابي في «معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى»، قدّم رؤية أخرى عن مشهد الانسحاب من العراق. فهو بيّن، عبر الأرقام، أن الانسحاب ليس كلياً، وأن الوجود الأميركي بأشكاله المختلفة ما زال كبيراً، لذا فالتحديات الأمنية التي سيواجهها ستكون هائلة.
نايتس يشير الى أن ١٦ ألف موظف تابعين للحكومة الأميركية سيبقون في العراق، بينهم حوالى ٥ آلاف متعاقد مع القوى الأمنية. كما سيفرز حوالى ١٥٧ موظفاً من وزارة الدفاع الأميركية و٧٦٣ متعاقداً ضمن «فرق الدعم الخاص». هذا إضافة الى ١٢٠٠ من مدربي الشرطة من شعبة «مكافحة المخدرات وفرض القانون». نايتس يشرح أن السفارة الأميركية في بغداد سيكون لها فروع ومكاتب فاعلة في تكريت حيث القوات الجوية، وفي أم قصر حيث القاعدة البحرية، وفي تاجي حيث مركز الدعم اللوجستي، وفي بسمايا حيث مركز التدريب. كما سيتم توزيع عدد من موظفي وزارة الخارجية في كل من البصرة وأربيل وكركوك
وغيرها...