هل يمرّ الوضع السوري بحالة من الاستعصاء؟ هذا ما يبدو لقطاع من المعارضة، أو حتى لقطاعات من المنتفضين، وربما لدول وهيئات. أمر يقود إلى البحث عن حلول من خارج الانتفاضة، التي بدا لكل هؤلاء أنها قدمت ما تستطيع، وأنه ليس من إمكانية لتطور دراماتيكي يجعلها تفرض التغيير أمام العنف الشديد الذي تمارسه السلطة وتبقى متماسكة. سبعة أشهر مرّت على الانتفاضة من دون أن يظهر أفق لانتصارها، ومن دون تبلور الرؤية التي تسمح بالقول إن طريق انتصارها باتت واضحة، أو أن انتصارها أصبح حتمياً انطلاقاً من تبلور كيفية تحقُّق هذا الانتصار، وخصوصاً أن العنف الدموي الذي تمارسه السلطة يتصاعد أكثر فأكثر، وحيث جرى توسيع دور «الشبيحة»، واتّسعت حملات الاعتقالات لتشمل مئات الآلاف، في وضع يجعلنا أقرب إلى حالة حرب حقيقية. أضف إلى كل ذلك أنّ أهم مدينتين، دمشق وحلب، لم تتحركا بعد بما يخلّ بميزان القوى لمصلحة الانتفاضة، وكذلك استمرار تخوّف الأقليات الدينية، وضعف مشاركة المناطق الكردية. وربما كان المؤشر «الأخطر» هو تراجع أعداد المتظاهرين في «المناطق التقليدية» التي يجري فيها التظاهر. لهذا، تبدو الأمور كأنها سائرة وفق السيناريو الذي يتكرر، ويتمثّل بخروج التظاهرات في المناطق ذاتها، من دون أن يحدث ذلك اختراقاً يغيّر من موازين القوى، أو يُعرَف الشكل الذي سيحدث فيه إسقاط النظام. بالتالي، أصبح الحديث يجري عن «تعادل» القوى واستعصاء، ومن ثم عجز الطرفين، الانتفاضة والسلطة، عن الحسم. هو استعصاء ربما كان في أساس البحث عن حلول من خارج الانتفاضة ذاتها. من هنا، هل يمكن القول إننا إزاء حالة استعصاء حقيقية؟ وإن الانتفاضة أعطت كل ممكناتها؟ من ثم ليس من الممكن أن يحدث اختراق يسمح بتطور دراماتيكي لها؟ يمكن أن نلاحظ أربع مسائل ربما تشير إلى الأفق الذي يمكن أن تفضي إليه الانتفاضة، هي:1 ــــ لا شك في أن العنف تصاعد بقوة منذ إدخال الجيش (أو بعض قطاعات الجيش) في الصراع من أجل السيطرة على المدن التي وضُح أنها باتت خارج السيطرة نتيجة الأعداد الكبيرة المشارِكة في التظاهر، وأفضى ذلك إلى تراجع أعداد المتظاهرين، لكن الحراك لا يزال قوياً رغم ذلك، ولقد انضمت مناطق جديدة إليه. ولهذا اضطرت السلطة إلى نشر أعداد كبيرة من القوى الأمنية والجيش والشبيحة في مناطق كثيرة، في المدن وبين أحياء المدن من أجل وقف التظاهر، لكن دون أن تحقق ما تريد، حيث تعود الجموع حال تخفيف القبضة العسكرية الأمنية مثلما كانت. وهذا ما يشير إلى أن قوة الانتفاضة لم تتراجع، بل لا تزال في عنفوانها. الشعب يريد إسقاط النظام، لم يتراجع ولم يتردد، ولم يوقفه كل العنف الذي يمارس، وهذا يعني أن الانتفاضة مستمرة دون أن يبدو ما يشير إلى تعب أو تراجع أو ملل أو يأس في صفوفها.
2 ــــ رغم العنف، نلحظ أن الفئات التي كانت مؤيدة للسلطة لم تعد كذلك في العديد من القطاعات، فقد لعب طول الانتفاضة دوراً في إقناع بعض هؤلاء بأن السلطة عاجزة عن الحسم، وأن استمرار الوضع كما هو يؤثر على مصالحها، وبالتالي لا يكون هناك خيار سوى التغيير. وقد شمل هذا الموقف قطاعات من التجار والاقتصاديين، وحتى قطاعات من الفئات الوسطى. وهذه كانت تمثّل قاعدة مهمة للسلطة، و«تقاتل» دفاعاً عنها.
ثم إنّ بعض «الأقليات» توصلت إلى أنّ السلطة تزجّها في «حرب أهلية»، وتضحّي بوضعها، وتحوّلها إلى «قوة قمع»، الأمر الذي جعلها تميل إلى إظهار اعتكافها، وربما «تذمُّرها» من السلطة ذاتها. لقد لعبت ممارسات السلطة، التي قامت على افتعال صراع طائفي، دوراً معاكساً لما تريد، حتى لدى قطاعات كانت تدافع عنها، لأن هذا الأمر ليس بهذه السهولة أو «المعقولية» في بلد أصبح التشابك البشري فيه السمة التي تتشكل منها كل المدن، وتضمها كل مواقع العمل، وذلك بعد ملاحظة وضع العراق بعد تفجر الحرب الطائفية فيه.
هنا، يمكن القول إن حجم تأييد السلطة قد تقلّص، وإذا كان معروفاً كيف يجري تحضير «المسيرات المليونية»، فإن المسيرة الأخيرة توضح مدى تراجع الكمّ، رغم أن التعميم بالمشاركة شمل كل المؤسسات والمدارس والنقابات.
3 ــــ أما بالنسبة إلى الوضع الاقتصادي، فقد دلّت القرارات التي صدرت أخيراً على مدى الارتباك الذي تعيشه السلطة، سواء في ما يتعلق باحتياط النقد الأجنبي، أو تراجع الصادرات والأزمة التي ستنتج من وقف استيراد النفط، أو «الحصار الاقتصادي» الذي فرضته الدول الرأسمالية. هو الأمر الذي فرض طباعة ليرة بدون رصيد، وأسهم في ارتفاع أسعار السلع، أو الضائقة التي تحيط بدفع الأجور، وتراجع السياحة وركود الأسواق التجارية وتراجع واردات الدولة، وخصوصاً مع الاستهلاك العالي نتيجة الاستنفار العسكري، والدفع لعناصر «الشبيحة»، والصرف على عمليات العنف.
وبالتالي، إذا كان هناك ركود عام في الاقتصاد، فإن موارد السلطة ومصاريفها سوف تصل إلى حدّ الأزمة. كما أن الأزمة الاقتصادية تنعكس واقعياً من خلال تذمُّر قطاعات لم تكن مع الانتفاضة، وربما كانت ضدها.
4 ــــ أخيراً، فإن الاستنفار العسكري الطويل، واستخدام قوى محدَّدة من الجيش والأمن يقود إلى استهلاك كبير لفاعليتها، وإذا كان قد اعتمد على «الشبيحة» كثيراً، فإن ممارسة العسكريين المنشقين ضد هؤلاء باتت تشل مشاركتهم.
ثم إنّ توسيع الحاجة إلى السيطرة على مناطق كثيرة، وإبقاء الوجود العسكري في المدن والبلدات لفترات طويلة فرضا توسيع إشراك قطاعات من الجيش أكثر، الأمر الذي بات يقود إلى توسُّع الانشقاقات، وهذا خطر يهدّد جدياً بانتقال قطاعات كبيرة من الجيش (هي من أبناء المناطق التي تُقصف ويُقتل أبناؤها) إلى صف الانتفاضة.
هذا الوضع بات يقلق السلطة، ويشعرها بأنها عاجزة عن الحسم، أكثر ما يشعر المنتفضين بأنهم في مأزق. وكان تحوّل الوضع الدولي ضد السلطة، ومحاصرة موقف روسيا والصين، جزءاً من هذا الشعور الذي يوصل بأنْ لا أمل في الحسم، وأن السقوط بات قريباً. التحوُّلات على الأرض تشير إلى أن الانتفاضة بات من غير الممكن وقفها أو سحقها، أو تراجعها، وأن المسألة باتت تتعلق بكيفية سقوط السلطة؟ ومتى؟