يأتي نائب الرئيس الأميركي جوزف بايدن، أو لا يأتي، فالأمر سيّان بما أنّ خرائط التقسيم أمست جاهزة. تلك هي خلاصة المشهد السياسي العراقي عشية إتمام انسحاب قوات الاحتلال الأميركي. ومع أن مُلابسات زيارة بايدن لبغداد ـــــ «غير المعلَنة» ولو أن جميع الأطراف أعلنتها وعلّقت عليها ـــــ لم تتّضح معالمها بعد، لكنها تكتسب أهمية استثنائية في هذا التوقيت؛ فجميع وسائل الإعلام العراقية تقريباً أكدت أن الزيارة ستجري يوم السبت أو الأحد الماضيين. مرَّ السبت وتلاه الأحد ولم تحطّ طائرة الرجل. بعدها، أعلن «مصدر حكومي» أنّ الزيارة أُجلت إلى الشهر المقبل، أو إلى نهاية العام الجاري بحسب رواية أخرى. ونفى مصدر حكومي آخر أن تكون الزيارة سرية، وبرّر التعتيم الإعلامي المحاط بها بالأسباب الأمنية كالعادة.
بايدن معروف في الإعلام العراقي والعربي عموماً بكونه عرّاب مشروع تقسيم العراق طائفياً إلى ثلاث دويلات، وقد أجبرته ظروف العراق المتقلّبة وانكفاء المشاريع الطائفية جزئياً قبل بضع سنوات، على تعديل نسخته الخاصة من هذا المشروع ليجعله أكثر مرونة حتى يكون من السهل ترويجه. رغم ذلك، وربما بسبب ذلك، ركَّزت تصريحات الرسميين العراقيين، منهم مثلاً النائب سامي العسكري المقرب من رئيس الحكومة نوري المالكي، على التأكيد أنّ الزائر سيشدد على ملفات التعاون الاقتصادي والثقافي والأمني بين البلدين وفق اتفاقية الإطار الاستراتيجي.
هذه الاتفاقية التي وقّعها الطرفان الأميركي والعراقي عام 2008، هي بعكس شقيقتها «الاتفاقية الأمنية» (سوفا) أُهملت وعُتِّمَ عليها إعلامياً عن سابق قصد لخطورتها. بل هي، كما يرى محللون عراقيون وأجانب، أخطر بكثير من الاتفاقية الأمنية. بعضهم يشرح السبب كالآتي: الاتفاقية الأمنية ستُنجَز وتُحوَّل إلى أرشيف وزارتي الخارجيتين العراقية والأميركية مع عرض مسرحية «خروج آخر جندي أميركي» من العراق أمام وسائل الإعلام، وإطفاء الأضواء على بقاء الآلاف منهم في السفارة الأميركية العملاقة والقنصليات الضخمة والقواعد العسكرية السرية.
وقد كشف زعيم التيار الصدري قبل أيام قليلة عن وجود آخر تلك القواعد، وحدّد موقعها قرب قرية «سيبران سرو» شمال غرب عاصمة الإقليم الكردي أربيل. هذا بخصوص الاتفاقية الأمنية. أما اتفاقية «الإطار الاستراتيجي»، فهي ستنظّم العلاقة بين الولايات المتحدة وحكم المحاصصة العراقي، وستستمر بالسريان والفاعلية لسنوات طويلة مقبلة. إنها سنوات، وربما عقود، يعتقد بعض المراقبين أنها ستكون فترة «احتلال غير مباشر»، سبق للعراق أن مرَّ بها بعد الثورة العراقية الكبرى على الاحتلال البريطاني سنة 1920، وجعلت العراق يدور في الفلك الإسترليني لعدة عقود انتهت بالثورة الجمهورية عام 1958. لعلّ أخطر ما في اتفاقية الإطار الاستراتيجية، التي سُلِقَت ليلاً ومُرِّرت على عَجل وبعيداً عن الإعلام، أنها تسمح للمحتل الأميركي في حقبة الاحتلال غير المباشر بالتدخُّل، لا في شؤون الوزارات العراقية جمعاء فقط، بل أيضاً في وكالات الوزارات. إنها صيغة صريحة لاستبدال وجود المستشارين الأميركيين في الوزارات العراقية حالياً، بوجود آخر لم يعلن شكله بعد.
والنص القصير التالي من الاتفاقية يلخصها برمتها، يعلن هدفها الفعلي والحقيقي: «إن اتفاقية الإطار الاستراتيجية هي لدعم الوزارات والوكالات العراقية في الانتقال من الشراكة الاستراتيجية مع جمهورية العراق، إلى مجالات اقتصادية ودبلوماسية وثقافية وأمنية». هكذا سيتّضح للمراقب المحايد أنّ محاولة حصر زيارة بايدن بموضوع منح الحصانة القضائية «للمدرِّبين» الأميركيين الذين سيبقون في العراق بعد نهاية العام الجاري، أو بالتحضير لزيارة المالكي لواشنطن واللقاء مع الرئيس باراك أوباما في 12 كانون الأول المقبل، ليس مجدياً ولا دقيقاً كفايةً.
أما بخصوص ملف انسحاب قوات الاحتلال من العراق، فقد استفاق العراقيون قبل أيام على «حقيقة» لا تخلو من الطرافة، تقول إن الأراضي الأميركية ليست بعيدة كثيراً عن حدود البصرة كما كانوا يظنّون، حيث تدفّق ثلاثون ألفاً من تلك القوات من الأراضي العراقية نحو الأراضي الكويتية حيث تمركزت خلال بضعة أيام. فهل هو انسحاب إلى ولاية أميركية تجاور العراق، أم أنها مجرد عملية إعادة انتشار عسكري على الحدود؟ السيدة ناهدة الدايني، النائبة عن قائمة «العراقية»، علّقت على هذه الواقعة بالقول إن الانسحاب الأميركي «ليس انسحاباً نهائياً، بل هو انسحاب من أجل التمركز في الكويت ومراقبة الوضع في العراق». واشتكت الدايني من أنّه لا أحد في جميع الكتل السياسية يعلم بتفاصيل الاتفاقات الأمنية السرية التي عُقِدَت مع الجانب الأميركي سوى المالكي ووزير دفاعه بالوكالة عبد القادر العبيدي، وأنّ الصورة لديها عن تلك الاتفاقيات «مبهمة وغير واضحة ولم تحصل على جواب شافٍ من القائد العام للقوات المسلحة (أي من المالكي) أو وزير الدفاع بخصوص هذا الموضوع». ولأنَّ المصائب لا تأتي فرادى في بلاد الرافدين، انفجرت قبل أيام من إعلان زيارة بايدن أزمة الأقاليم في المحافظات ذات الغالبية العربية السُّنية.
وقبل أن ينجح الشركاء في حُكْم المحاصصة بإطفاء نيران هذه الأزمة، أشعل رئيس الجمهورية جلال الطالباني أزمة أخرى جديدة حين قدّم إلى البرلمان مشروعاً مؤلَّفاً من مجموعة من مشاريع القوانين مرفَقة بخريطة جديدة لحدود المحافظات العراقية التي عدّلها بنفسه، بما يخدم مشاريعه الحزبية وانحيازه القومي، وفق توصيف خصومه السياسيين. وكان لافتاً أن جميع الكتل البرلمانية، باستثناء الكتلة الكردية (التحالف الكردستاني) التي ينتمي إليها الطالباني، رفضت الخريطة المعدّلة ومشاريع القوانين المقدَّمة. لكن الكتل البرلمانية لن تستطيع مصادرة الحق الدستوري للرئيس، مع أنّ منصبه تشريفي وليس تقريرياً، في إيصال مشاريعه وخرائطه إلى رئاسة البرلمان.
وقد سجّل نواب كثيرون من تلك الكتل اعتراضاتهم على المضامين والأهداف التي كانت وراء خريطة الطالباني، وبعضهم سجّل اعتراضه على التوقيت الذي اختاره صاحب الخريطة والمشاريع، وقالوا إنّ مجرَّد طرحه لخريطته وتعديلاته، في هذا التوقيت تحديداً، الذي يتزامن مع إعلان زيارة بايدن، هو محاولة خطيرة وحساسة يقوم بها الطرف الكردي لحصد ما يمكن حصده من إنجازات ومكاسب قبل إتمام انسحاب قوات الاحتلال.
سواء وصل بايدن إلى بغداد أو لم يصل، فإن الخرائط، سواء تلك التي عدَّلها الطالباني، أو التي رسمتها أطراف أخرى، ستكون جاهزة، ومعها ستدخل بلاد الرافدين مرحلة صعبة جديدة من تاريخها، قد تخرج منها بلاد أخرى موحَّدة وقد لا تخرج.