مصر على موعد مع الاستحقاق الانتخابي الأول بعد الثورة. الانتخابات التشريعية تقترب، لكن الخوف من المجهول لا يزال مخيماً على الجميع، وسؤال «مصر إلى أين» يسيطر على الألسن، وسط حالة ترقّب إسلاميّة لتولي الحكم، وسعي المجلس العسكري إلى استعادة جمهوريته

استحقاق الثورة بين الميدان والبرلمان



هل تكمل الانتخابات الثورة؟ السؤال يتخيل مسبقاً أن عملية سياسية ستمنح للثورة قبلة الحياة. السؤال من زاوية ترى أن مسارات الثورة مسدودة، وسيعاد فتحها بوصول نواب يكملون طريق التغيير المليء بمطبات صناعية صنعتها تحالفات غير مرئية تُبعد الدولة في مصر عن حداثتها. الانتخابات جديدة، لكنها ليست علامة الثورة الوحيدة، لا تزالت العودة الى الميدان تتقاطع مع الانتخابات ولا تقاطعها. تعدد المستويات بين البرلمان والميدان دليل حيوية لا يراه الثوار سريعو الاشتعال. والميدان بالنسبة إلى بعض التيارات مجرد استعراض قوة انتخابية، يحاول فيها الاسلاميون الحفاظ على غنيمة يتصورون أن الانتخابات تخفيها في الصندوق. الانتخابات غنيمة جماعة الاخوان المسلمين الاساسية، من اجلها رفضوا «وثيقة السلمي» التي تحرمهم من السطوة على تشكيل الجمعية التأسيسية، وهذا رفض يختلف عن تيار كبير يرفض الوثيقة، في اطار حركة مقاومة حكم العسكر ولو تقنّع بالبدلة المدنية. الميدان يعود إلى استعادة حلم الجمهورية الجديدة في مواجهة احلام اعادة انتاج الجمهورية القديمة بتوافق بين العسكر والاسلاميين. تحالف يفشل على مر التاريخ الحديث، لكنه لا يزال رهاناً في اوساط الاسلاميين، او بعضهم الذي يفاوض على تقاسم السلطة. الجمهورية القديمة كانت خلطة، لا علمانية ولا دينية، لا عسكرية ولا مدنية، لا رأسمالية ولا اشتراكية. خلطة تمنح شرعية على كل لون لمن يحكم. شرعية عسكرية بمنطق «الغالب مسيطر» هي الاساس، والثقل الكبير تحيطه شرعيات صغيرة: الأزهر لضمان اسلامية الدولة، والكنيسة لضمان تمثيلها للوحدة الوطنية. دولة وحدت الجميع في اضطهادها، وضيقّت افقها لتصبح ملك حاشية تحولت مع الايام وطول البقاء على الكرسي الى مافيا حقيقية، امسكت بكل التفاصيل بمنطق السيطرة ولم تستطع الهيمنة مع آخر جنرالاتها.
من هنا ولد التطرف الذي تلاحظه قوياً وشرساً في اعلانه عند المسلمين، وخافتاً يلمع في الحلقات الضيقة وقلاع العزلة عند المسيحيين. ومن هنا ايضاً تروج فكرة ان الفترة المقبلة لحكم الاسلاميين، وكأنها حقيقة أو حتمية تاريخية، وهي غالباً اعلان مخاوف وهواجس من تداول السلطة بين العسكر والاسلاميين.
القلق يلخصه سؤال في كل مكان: مصر الى اين؟ قد يكون هذا نجاحاً للمجلس العسكري الذي اعاد الغموض الى العملية السياسية، بما يعنيه انهم يخبئون شيئاً خلف أبوابهم العالية. لكن غموض المجلس مختلف عن غموض مبارك، الذي كان البلد كله بيده، يخفي مستقبله تحت وسادته، وهذا عصر انتهى ولن يعود لأن قوة المجتمع لم تتراجع بعد مشاركتها في صناعة النظام السياسي، ولم تنجح كل محاولات الابعاد في اخلاء الساحة من القوة التي صنعت ثورة 25 يناير، وحشرت أصابع المجتمع في تركيبة السلطة. لم يعد الحكم وحياً وإلهاماً من مجموعات الكهنة الجالسين خلف الكواليس يخططون ويختارون ويديرون.. وعلى الشعب انتظارهم تحت الشرفة ليعرف المستقبل. المستقبل يصنع في الشارع، وهذا سر من الاسرار الكبيرة للقلق، لأن الشارع مضطرب. الاستبداد حوّل الشارع الى حديقة وحوش يروضها جهاز الامن، الذي تخلى عن الحماية تماماً، واكتفى بإدارة عملية الترويض بنشر الذعر والخوف معتمداً على هيبة الطغيان لا القانون. الانتصار في الشارع للأشرس، وسياسياً للاعلى صوتاً والاكثر قدرة على اثارة الرعب، هذا بعد غياب كوابح الامن، أو فلتان ماكينة الترويض. وهذا ما يثير الخوف من اصحاب الاصوات العالية من الاخوان والسلفيين، خوف لا يعني أن الخائفين ليسوا متدينين، ولا يريدون القيم والاخلاق، إنه خوف طبيعي من هؤلاء الذين استباحوا لأنفسهم التدخل في الحريات الشخصية، والاعتداء على اساليب الحياة الحديثة بكل استسهال او استعراضية كأن الاسلام سيدخل مصر على ايديهم او كأن كل المسلمين في مصر ينتظرون أن تجبرهم الدولة على التزام تعاليم الاسلام. الاسلام بالتأكيد لن يدخل مصر مع حزب الاخوان او حزب النور او حزب الجماعة الاسلامية، سيدخل مصر الموديل السعودي ليحكم، موديل لا يفرض الحكم الاسلامي لكنه يفرض حكم عائلة باتفاق مع جماعة تابعة لتفسير الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدين. التحالف بين آل سعود والوهابية في السعودية ليس هو الاسلام، انه تركيبة حكم ليس اكثر، تمرد عليها متشددون يتكلمون ايضا باسم الاسلام، و تمرد عليها اشخاص عاديون، مسلمون يحلمون بدولة تحترمهم لا تتعامل معهم على انهم قطيع يهشه عضو بوليس الاخلاق المسمى «المطاوعة» كأنهم غنم لايفكر ولا يختار. الموديل السعودي هو اداة في حكم الشعوب وليس في نشر الاسلام او تطبيقه، وهذا فارق كبير.
«لا نريد المتاجرة بالدين ليعيد الاستبداد»، التحذير كان في جلسات يشارك فيها شاب في الاربعين ترك لحيته على طريقة جماعة التبليغ والدعوة، وسيدة في نهاية عشرينياتها ارتدت النقاب، وأستاذ ازهري يختاره الناس لإمامة الصلاة بسماحة وجهه اللافتة وخطابه اللطيف الفاهم. هؤلاء هم جمهور طبيعي لنجوم التطرف، الذين يقتحمون الحياة باسم الاسلام. والاكتشافات مذهلة، المنقبة ترى انها اختارت طريقة ملابسها ولا ترضى ان يكون هذا فرضاً من فروض الدولة، وزوجها الشاب المدرس بالازهر ينزعج من الوصول الى الحكم بتكفير الناس او التعامل مع الدين على انه وسيلة قمع لا صنع طريق بين الله والانسان. عادت الى ذاكرتهم لحظة الميدان الصوفية عندما وقفت المرأة العصرية بجوار السلفي والمحجبة والملتحي بجوار شباب يرتدون الجينز ويطيلون شعورهم. لم ينظّر احد لاختياراته في الحياة، ونظر الجميع الى هدف واحد: اسقاط المستبد.
التحرر من المستبد يعني الآن القبول بالتعدد، وبأن الدولة لن تفرض موديلاً للحياة، ولا اختيارات شخصية، ولا حلاً الا بالاتفاق على انك حر في حياتك، وأن هناك مجالاً عاماً يحترم هذه الحرية ولا يمكن مصادرته.

استبداد «القبضة العجوز»



المجلس العسكري يحب الصورة القديمة للدولة، وربما لا يعرف غيرها. لكن المجتمع، الذي يعرف صعوبة الافلات من قبضة دولة تعودت على قهر افرادها، مصرّ على التحرر من هيبة الدولة بمعناها القديم
عندما كسر علاء عبد الفتاح الطاعة لم يكن من المتوقع الاستجابة الكبيرة من المجتمع. نقابة الصحافيين قررت عدم مثول الصحافيين أمام المحاكم والنيابات العسكرية، وقبلها امتنع الدكتور احمد دراج، القيادي في الحركة المصرية للتغيير، عن المثول امام الاستدعاء. المجتمع يدافع عن نفسه امام سلطة تريد استعادة هيبتها على طريقة الدولة المستبدة. الدولة لها طرق في الهيبة يختار المستبد اسهلها: القهر والجبروت.
«هيبة الدولة» عبارة تستدعي تاريخ القهر الطويل الذي عاشته مصر منذ أن اصبحت الدولة حيواناً مقدساً يعبده الشعب بوصفه الحامي والراعي والمستحق للقداسة مهما كان الطغيان والظلم. يتلذذ المجتمع المقهور بالألم من الدولة، يلعنها لكنه يريد التذلل لها حتى تحميه وتمنحه فرص العمل وحق العلاج، كأنها تمنحه من فيض احسانها. المواطن في هذه الدولة «جندي مخلص»، يقدّس التعليمات، وفق أخلاقية تسيطر عليها الدولة.
الدولة ليست مديرة شؤون البلاد. الدولة هي «الهدف الأعلى»، ونموذج يفنى فيه المواطنون، ويخدمونها بإرادتهم أو بنزعتهم إلى المثال والكمال. الموديل الفاشي له مغرموه. لا يشعرون بفاشيته، لكنه يداعب عواطف المثالية ويوقظها على طريقة «ابدأ بنفسك أولاً»، وهي دعوة تصلح لنصائح الكنيسة لكنها لا يمكن أن تتحول إلى أساس للعلاقة بين الفرد والدولة.
الدولة لها أشكال أخرى، وقد انسحب نموذج الدولة الفاشية من العالم وحلت محله الدولة التي تدار بالقوانين. والفرد يلتزم أو لا يلتزم. هذه حريته التي تواجه بتكاليف الخروج عن القانون. في المقابل، يتمتع الفرد بحزمة حقوق تتحقق بها مواطنته وعضويته في الدولة، وتتحقق بها الدولة نفسها. المجتمع يستعيد قوته ببطء اذن. ويسير وراء احلام دولة لا تهيمن باسم قيم علوية مثل «مصلحة الوطن».
لماذا يصر المجلس العسكري على تحويل المواطنين الى محاكم غير شرعية؟ لماذا يصر على منع الحقوق عن المواطن؟ الحق الاساسي هو المحاكمة امام قاضي طبيعي لا استثنائي، والدولة المستبدة وحدها التي تواجه مشكلة في ادارة شؤون البلاد من دون اجراءات استثنائية. المجتمع يدافع عن نفسه.. يرفض الخضوع للظلم، هذا ما بدأت به ثورة دمياط على مصنع يرونه يبيع الموت. ربما قطع الطريق هو وسيلة عنيفة لكنها الوحيدة التي اوصلت الصوت الى حكومة تعيش موتها اليومي ومجلس لا يسمع الا بهذه الطريقة. كان من الممكن مع اول يوم اعتراض ان يدار حوار حقيقي مع المجتمع الرافض، لكن ان يُترك المعترضون يصرخون في البرية فإن هذه دعوة الى التصعيد. وكذلك الاصرار على المحاكم العسكرية والوصول الى ارقام قياسية (12 الفاً) تجاوزت في 10 أشهر ما تم في عصر مبارك الكئيب كله. الثورة ايقظت المجتمع الذي ذهب الى نوم طويل منذ 60 سنة.. ولن يعود المجتمع، الا بعد أن تعود الدولة الى رشدها، بالتوقف عن الجبروت وسيلة واحدة للحكم.
الدولة ستسعيد هيبتها اذا عرفت ان الزمن تغير وزمن قهر المجتمع انتهى. قوة المجتمع ستعيد الهيبة الى دولة المواطن. وهو نوع لم تعرفه الدولة التي تربت في الثك ورادت نقل ثقافة الثكنة الى المجتمع. المجلس العسكري لا يسمع. ينتظر فقط السمع والطاعة لوامره، ولا يسمح للحكومة بأن تقوم بمهمة ادارة المشاكل والأزمات.
لماذا ترك المجلس العسكري ازمة مصنع «اجريوم» تتفاقم بدون ان يفكر في الحل؟ لماذا يتصور أن اداة القمع هي الوحيدة المتاحة لحل مشكلات المجتمع؟ كان من الممكن التعامل مع ازمة مثل ازمة مصنع «اجريوم» بعشرات الطرق والحلول، لكن عقلية الحاكم العسكري تصاب بهستيريا في مواجهة تعبير المجتمع عن نفسه. المجتمع في المدينة البعيدة عن العاصمة يتظاهر من اجل البيئة، ويرفض اقامة مصنع يسبب التلوث وينذر حياتهم بالخطر. هل هناك طريقة للتعبير عن الخوف من الموت سوى التظاهر؟ المجلس يرى الاعتصام والتظاهر حقوقاً على الورق فقط، لكن في الواقع يراها تحدياً لسلطته، وعليه مواجهتها حتى لا يتعود المجتمع على تلبية مطالبه.
هذه عقلية تنزعج من نمو قوة المجتمع وإرادته في ان يشارك في السلطة. يفتت المجلس المجتمع ويحرض من خلال جهاز اعلام مضلل على التظاهر، ممرراً الخبر على شاشات التلفزيون الحكومي بأن «استمرار المعتصمين في اغلاق طريق دمياط يعرضنا لخسائر بالملايين». الاعلام هنا لا يفتقد الحرفية ولا المهنية فقط، بل هو بلا ضمير وكاذب. المشكلة اكبر من خسارة الملايين، فالمجتمع يرفض الموت بسبب توحش الرأسمالية.. والمجلس لم يفكر الا في قمع التظاهر وإرسال طائرات عرض القوة وتحريك الأمن المركزي برصاص يقال انه قتل اثنين من المعتصمين. القتل اصبح عادياً عندما يهتم المجلس العسكري بقبضته على الحكم، وهي قبضة عجوز لا يملك الا استحضار مزيد من الشراسة لكي لا يكتشف احد عدم قدرته على فرض هيبته. قبضة العجوز مثيرة للرعب، لأنه يريد الحكم او يريد ان يترك قبضته فوق كل من يحكم. يحكم المجلس العسكري، نعم يحكم، وقد اعجبه الحكم، وشعر بلذته، واستساغ طعم قضم التفاحة قطعة قطعة، يعيش على اسطورة المحبة، ويستهلكها الى حدودها القصوى، يليها اسلوب تفتيت الطبقة المدنية الهشة اساساً، بترك العنف يتجول في الشوارع ليسمع صرختنا: «الحقنا يا جيش».
المجلس ربما بطيء في الاستجابة، او تعود طريقة مبارك في ادارة الامور، او وصلته إلهامات قديمة من هواة الجمهوريات العسكرية تقول ان بالامكان تمرير حكم العسكر بمزيد من الملل. الملل كان شرعية مبارك الوحيدة، يمسك كل الخيوط بيده، ويدير بها جهازاً امنياً شرساً، وجهازاً سياسياً. منحته الخبرة الطويلة قدرات اللعب في السيطرة على مداخل الدولة ومخارجها. المجلس يريد الحكم بدون جهاز امني ولا جهاز سياسي، يريد الحكم بقبضة العجوز. يقسم المجلس الشعب الى قسم مطيع يسميه المواطنين الشرفاء، وقسم آخر نمرود. المجلس لم يعد له ظهير سياسي، وشعبيته تآكلت الى حدود لم يدركها بعد، لكن هناك المستسلمين دائماً للامر الواقع الذين يمصمصون حكمتهم المستهلكة: وماذا نفعل بدون المجلس؟ ما هو البديل؟ الحقيقة ليس هذا وقت البحث عن بديل للمجلس، لان المجلس ليس مطروحاً بما هو سلطة ممكنة، المجلس يدير مرحلة انتقالية، عليه ان ينفذها بإرادة الثورة لا بإرادته ولا بوحي من إلهام عقلية السيطرة العسكرية.