الرباط | في وقت كان فيه الشارع المغربي يغلي إبان حراك «20 فبراير» عام 2011، اختار عبد الإله ابن كيران، الأمين العام لـ«حزب العدالة والتنمية» الإسلامي المعارض في حينه ورئيس الحكومة المغربية لاحقاً، إبقاء حزبه بعيداً من الحراك، رافعاً شعار: «الإصلاح في ظل الاستقرار». كان موقف ابن كيران صريحاً بأنّ الحراك الشعبي والشبابي «سيفتح أبواب المملكة على المجهول»، ما دامت الفعاليات السياسية والمدنية المشاركة في «حركة 20 فبراير» الشبابية ترفض وضع سقف سياسي لمطالبها. كانت قناعته بأنّ الحفاظ على المؤسسات القائمة أولوية تسبق كل إصلاح سياسي.
أتى خطاب الملك المغربي، محمد السادس، في آذار/مارس 2011، متجاوباً بصورة جزئية مع شعارات الشارع المطالب بتوسيع هامش الحريات وبإصلاحات سياسية، وأعلن إصلاحاً دستورياً اعتبر في حينه «ثورة»، باعتبار أنه جنّب المغرب الدخول في مواجهة «غير محسوبة العواقب» بين الشارع والنظام.
بعدها أعلنت انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، إلا أنها «كافأت» ابن كيران لانحيازه إلى «الاستقرار» على حساب حركة الشارع المفتوحة، التي اعتبرها زعيم «العدالة والتنمية»، «مخاطرة تقود إلى كل الاحتمالات».
كَسبَ ثقة الناخبين، ونال ثقة الملك الذي عيّنه رئيساً للحكومة كأول «إسلامي» يصل إلى هذا المنصب الرفيع، وكسب تأييد قطاعات واسعة، رأت أن مصالحها مع الاستقرار. بذلك، يكون ابن كيران قد أدّى دور الإطفائي الذي سيخمد نيران الاحتجاجات.

البقاء في الحكم: هدف أول

في مفاوضات تشكيل الحكومة، اختار ابن كيران أن يفتح خط المفاوضات مع جميع الأحزاب، وكانت عينه أساساً على «أحزاب الكتلة»، التي تضم «الاستقلال»، و«الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية»، و«التقدم والاشتراكية» (وهي أحزاب منحدرة من الحركة الوطنية). لم يستثن ممن رغب في التحالف معهم إلا «حزب الأصالة والمعاصرة»، الذي كان ولا يزال يعتقد أنه يؤدي «أدواراً سيئة» في المشهد السياسي المغربي، ولقد شبهه في عدة مناسبات، بحزب الرئيس التونسي الأسبق، زين العابدين بن علي، (التجمع الدستوري الديموقراطي).

اضطر ابن كيران بعد سنتين من عمر حكومته إلى التفاوض لإعادة ترميم التحالف

نجح الرجل في نصف المهمة، إذ أقنع أحزاب «الاستقلال» و«التقدم والاشتراكية» و«الحركة الشعبية» بدخول حكومته، بينما امتنع «الاتحاد الاشتراكي» عن الالتحاق بـ«الحكومة نصف الملتحية»، بحسب وصف وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الأسبق، أحمد العلوي المدغري.
«الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية» برر رفضه الالتحاق بحكومة ابن كيران لكون مشروعها المجتمعي يناقض اختيارات الحزب الحداثية، وفضّل الاصطفاف إلى جانب «الأصالة والمعاصرة» و«الاتحاد الدستوري» و«التجمع الوطني للأحرار».
لكن ابن كيران اضطر، بعد سنتين من عمر الحكومة، إلى التفاوض من جديد لإعادة ترميم تحالفه عقب انسحاب وزراء «الاستقلال» من الأغلبية البرلمانية، الحدث الذي كان من شأنه إسقاط الحكومة والدفع بالبلاد إلى خوض انتخابات سابقة لأوانها.
آنذاك، قبِل «التجمع الوطني للأحرار» ملء الفراغ الذي خلفه «الاستقلال». وفيما فاوض لتحقيق أكبر قدر من المكاسب، اضطر ابن كيران إلى التنازل وإرضاء حلفائه الآخرين على حساب حصة حزبه، أملاً في استمرار التجربة حتى حدودها القصوى.

سيف الاستحقاقات


مع مرور الوقت، كلّف الدخول في تدبير الدولة ابن كيران وحكومته تلقي اتهامات كثيرة بأنها تتخذ «قرارات غير شعبية»، تستهدف الفئات الفقيرة في المجتمع في مقابل تقديم تنازلات كبرى لرجال الأعمال والأغنياء، من قبيل إصرار رئيس الحكومة على رفض فرض ضريبة على الثروة، كانت ستقتطع من رؤوس الأموال لمشاريع اجتماعية.
تُواجَه الخيارات الاقتصادية للحكومة المغربية بمقاومة سياسية شرسة من قبل معارضيها، وخاصة من قبل «حزب الاستقلال» الذي حلّ ثانياً في آخر انتخابات تشريعية (2011). ولا يزال «الاستقلال» يبرر انسحابه من النسخة الأولى من «حكومة الإسلاميين» بكونها تنفذ سياسات البنك الدولي وتغرق البلاد بالديون وتعتمد إجراءات تهدد السلم الاجتماعي.
أما ابن كيران، فيدافع باستمرار عن توجهاته الاقتصادية، مشدداً على أن إنتاج الثروة في البلاد يعتمد أساساً على اليد العاملة البشرية لبث أجواء الثقة وتحسين مناخ الأعمال.
واتخذ رئيس الحكومة، بحسب الداعمين لتجربته، قرارات تصب في اتجاه رفع الضغط عن الفئات الهشة، من بينها الرفع من الحد الأدنى للأجور، والزيادة في المنح، وخفض ثمن أكثر من 1700 دواء، مع توسيع دائرة الاستفادة من بطاقة «راميد» (وهو نظام تغطية صحية يستفيد منه الفقراء)، والتعويض عن فقدان الشغل، بالإضافة إلى إنشاء مجموعة من الصناديق ذات البعد الاجتماعي، التي استهدفت شرائح اجتماعية طاولها النسيان لسنوات، كالمطلقات والأرامل وذوي الاحتياجات الخاصة.

تُواجَه الخيارات الاقتصادية لحكومة ابن كيران بمقاومة سياسية شرسة من قبل معارضيها

برغم ذلك، يتعرض ابن كيران ووزراؤه، بصورة شبه يومية، للهجمات السياسية والإعلامية بسبب العديد من القرارات، بينها رفع دعم الدولة عن عدد من المواد الاستهلاكية، وخاصة المحروقات. وتقول المعارضة إن ذلك سبّب غلاء المعيشة، فيما ترى الحكومة أن قرارها أتى كإجراء ضروري لتخفيف الضغط عن الموازنة العامة.
ويعتقد المراقبون أن الحكومة المغربية الحالية «محظوظة» لأنها استطاعت التخلص من العديد من الأعباء التي كانت تنهك موازنة الدولة من دون أن يكون لذلك تبعات كبيرة على معيشة المواطنين، ويفسرون هذا الواقع بمعطيين اثنين. الأول أنّ انخفاض أسعار النفط عالمياً، انعكس على أسعار المحروقات في البلاد بصورة إيجابية. أما ثاني العوامل التي ساعدت الحكومة على تنفيذ إصلاحاتها الاقتصادية، يتمثل بتوالي المواسم الزراعية (الفلاحية) الجيدة، ما أسهم في تحريك عجلة الاقتصاد وتعزيز الاستهلاك.
ومع ذلك، يرى المراقبون أن أكثر الملفات حساسية تتمثل بملف إصلاح أنظمة التقاعد التي يتهددها الإفلاس في أفق عام 2022، ما ينذر بوقوع أزمة اجتماعية كبرى في البلد. حتى الآن لم يحصل توافق بشأن خطة الإصلاح في هذا الخصوص، إذ ترفض أغلب الأحزاب والنقابات تصوّر الحكومة لمعالجة الأزمة برفع سن التقاعد بالتدريج إلى 66 عاماً، والزيادة في نسبة مساهمة الأجراء. وفيما لم يقدم أي طرف خطة بديلة عن تصور الحكومة، أعلن ابن كيران أخيراً أن حكومته ستسير قدماً في فرض «الإصلاح» مهما كان الثمن.
في أكثر من مناسبة، يقول رئيس الحكومة المغربية إنه يعي أنّ بعض إجراءاته يمكن أن تكون لها عواقب على صورة حزبه لدى الناخبين، لكنه يشدد على الاستمرار لأن «أي تأخير في تنفيذ الإصلاحات سيجعل البلاد تدفع ثمناً أكبر في المستقبل».
يراهن بذلك ابن كيران على «تفهُّم المواطنين» لقراراته، لكن الانتخابات المحلية اقتربت (بداية الشهر المقبل) وحزبه مهدد بالتراجع، فيما ستقام الانتخابات التشريعية في غضون عام، هذه المرة بغياب حراك احتجاجي يمكن استثماره.