درعا وداريا والمعضمية ودوما وحرستا والتل وسقبا والرستن وتلبيسة... ريف. حتى المدن حمص وحماه تصح تسميتها المدن الريفية... لا غبار على النظرية الاقتصادية، رغم كل أشكال تصنيف الحراك باعتباره سياسياً أو طائفياً، مدنياً أو مسلحاً... هؤلاء البشر الذين أصبحوا فتيل «المؤامرة» في سوريا لهم حقوق مهدورة، ولهم ظلم يومي جعل واحدهم يمشي إلى الموت غير حافل بالغد. لهم قصة فض بكارة الاقتصاد السوري في عهد ربيع دمشق. قصة عن كيف أصبح جارهم غنياً وكيف اجتاحت بيوتهم البطالة المقنعة. لهم قصة قطاع زراعي وصناعي عملاق تلقى حربة في حلقه. قصة مشروع أتى على سوريا مع الألفية الجديدة والرئيس الجديد، في ملف يحمله موظف دمشقي دولي يدعى عبد الله الدردري. تليق بالدردري نظرية المؤامرة الاقتصادية. تلبسه ويلبسها.
يزهو فوقه لقب «حصان طروادة» لضرب البلاد. هو قائد المرحلة الماضية التي صنعت أرضية المرحلة الحالية من عمر سوريا. هو المتدين الدمشقي المعتدل كما يحبه أصدقاؤه الأتراك، ابن العائلة العريقة. والده من أبطال حرب تشرين، وأعمامه من عواميد العلم في دمشق القديمة. عمل الأب مستشاراً للرئيس الراحل حافظ الأسد، ثم نقل ولاءه للعمل في جامعة الدول العربية. كبر الابن بين سوريا ومصر وتونس. تلقّى تعليمه مع أبناء الرؤساء، وصافح الحكام مع والده. انتقل إلى لندن للدراسة الجامعية. وبدأ يختمر عنقوده.
من صحيفة «الحياة» في لندن إلى العمل مع برنامج الأمم المتحدة للتنمية والبنك الدولي، إلى التدرب على التخطيط الاقتصادي مع الأوروبيين. من قيادة مكاتب الأمم المتحدة في سوريا إلى العمل على يمين الرئيس في «الإصلاح»... هكذا، جلبه النظام إلى الأحضان ليقود التغيير بيديه. هو يعدّ الأوراق، والرئيس يوقّع. هو يعدّ البلد المستضيف، والرئيس يزور... هو أول من أدخل ظاهرة «جمعيات المجتمع المدني» إلى سوريا، وأول من أمّن مظلة تحمي ميشال كيلو وأمثاله من المطر البعثي. عبد الله الدردري من مقاس الموظف العالمي، ليس على قياس النظام السوري وحسب. هو دخل السلطة كالمراسل العالمي الحر، تخطى كل البيروقراطية السورية، قفز فوق الضباط والعائلة والطائفة والحزب، وتسلّم الدفة، وبدأ يحوك المقلب الكبير، بقصد أو بغير قصد!
في عام 2003 أصبح في الواجهة كأداة لمّاعة للشغل على سوريا. أعطي صلاحيات وفتحت أمامه الأبواب. عمل في المنظومة الحاكمة وتفاصيلها ومناكفاتها ومشاداتها 9 سنوات. ثم حين بدأت الأزمة السورية، حفظ رأسه متملّصاً من كل النظام، وعاد مع مطلع تموز الماضي إلى صفته القديمة من جديد، موظف في الأمم المتحدة مرة أخرى.
هذه المرة، بعد كل تلك الأعوام، أصبح للدردري ثقل وظيفي إقليمي يخوّله أن يدير مكتب العولمة والتنمية الاقتصادية في منظمة الأمم المتحدة في بيروت، ويكون له دور كبير مترقّب في مؤتمرها المقبل في كانون الثاني 2012، وموضوعه «الانتقال إلى الديموقراطية». ماذا سيؤدي الدردري بعد كل أدواره السابقة؟ وماذا يقول عن قدرة الاقتصاد السوري على الصمود؟ وعن العلاقات مع الأتراك والأوروبيين التي كان هو خيطها؟ ما موقفه السياسي الجديد؟ هذا «الإسلامي المعتدل» في أثوابه العالمية، أي دور سيرسم من مبنى الأمم المتحدة إلى سوريا؟
كلها أسئلة لم تخطر ببال الكثيرين. فهو لعب بصمت، وخرج بصمت من دون ملفات سرقة أو اختلاس. الرجل يعمل في نطاق آخر، على حلبة أكبر. كان يعمل على تدويل الشخصية الاقتصادية الاجتماعية في سوريا، من باب «تحريرها». طبّق التنمية التي تعلّمها عند الأمم المتحدة على سوريا. وتركها تتقلب في أزمتها. يقول الدردري إنه «فخور بإنجازاته التي نقلت أو أقلّه حاولت أن تنقل سوريا إلى التطور»، فيرد عليه الشعب السوري وقيادته: «تطويرك فتح خاصرة البلاد وضرب بنية الاقتصاد».

أبرز خطاياه

كانت خطة الدردري مدروسة كاستدراج الفتاة لتعمل في بيع الهوى. درّت الخطة أموالاً على سوريا بطبيعة الحال مع النهضة الاستثمارية، إلا انها حولت تلك النهضة إلى خاصرة مفتوحة لزيادة قدرة التأثير على سوريا، كما أدت إلى إنماء متطرف في عدم توازنه. فوصلت الهواتف إلى السويداء مثلاً وكذلك الإنترنت، قبل أن تصل مياه الري.
القطاع المصرفي والخدماتي والسياحي بشكله الحالي، ليس إلا نتيجة لخطة تحرير الاقتصاد التي بناها الدردري سنوات وسنوات. رامي مخلوف بكل احتكاره، ليس سوى أحد تجليات خطة الدردري ومشروعه. بعد الحدود اللبنانية السورية بقليل، تحديداً في منطقة الصبورة، حين تظهر استثمارات العرب يميناً ويساراً، كويتية وقطرية وإماراتية، تكون في مملكة الدردري. حين يرتفع صراخ الناس بسبب أزمة المازوت، تلك من شيم خطة الدردري. حين تصرخ سقبا بسبب كساد سوقها لصالح المفروشات التركية، تلك من شيم خطة الدردري. حين يستذكر أهل القمح الحوراني أيام الزراعة التي تقترب من الموت ببطء، تلك من شيم خطة الدردري. حين يصرخ الريف بسبب حاله ووضعه، فتلك أصلها وفصلها خطة الدردري.
في مكتبه الجديد في بيروت، يستذكر قصائد المتنبي «وينام ملء جفونه»، معتزاً بتنميته ويبرر لنفسه. يرى أنه ليس مذنباً إن لم يتمم النظام السوري إصلاحاته السياسية ليواكب إصلاحاته الاقتصادية. فهو كان يردد قرب الأسد دائماً أن «تحرير الاقتصاد لا يكتمل دون التحرير السياسي»، متناسياً أن أخطاء وثُغر المفرقعات النارية الاقتصادية أججت الفجوة الاجتماعية بين الفقراء والأغنياء. وفتّحت دروب الغرب على سوريا.
كانت الخطة العشرية التي قدمها قشرة موز للبلد. فكيف يتعايش المجتمع السوري نفسه، الذي واكب خنقة الثمانينات مع واقع جديد يقول إن في العاصمة وكالات ومحالّ ومقاهي وشركات عالمية؟ ضاعت الشخصية الاقتصادية السورية دون تأمين البديل. بين أيادي من تتوزع الامتيازات الجديدة؟ أيّ دور تؤديه جمعيات المجتمع المدني بتمويلاتها العالمية وعلاقاتها بالسفارات؟ أيّ دور يؤديه آلاف الطلاب الأجانب الذين يأتون إلى دمشق بمنح من حكوماتهم ليتعلموا ويقدموا أبحاثهم ومعلوماتهم؟ أي إفادة في أن تصبح حلب مستهلكاً للأتراك، بعدما كانت تصدّر إليهم؟ أي إفادة لسوريا أن تفتح قطاعاً مصرفياً وخدماتياً على حساب القطاعات الرئيسية؟ أي قطاع خدماتي سينمو في ظل دولة البعث؟ كأنه كان مقرراً أن تخرج خطة الدردري معوقة. كأنه كان مقرراً له أن يبرز الفجوة ما بين الدولة والشعب في المكان الاقتصادي ليكبر العفن بتجلياته. فكيف ستتناغم الدولة السورية بعقليتها ومفاصلها وخصوصياتها وشخصيتها الأمنية البعثية الاستبدادية مع انفتاح منفلت؟ رغم النهضة الاقتصادية التي رعاها الأسد، تداخلت مناكفات جسم النهضة لتعبث بالمنتج. ضاعت خطة النهوض بين مصالح الدكاكين في السلطة. كل الألوان مجتمعة أتلفت اللوحة السورية، وكشفت عورات توزيع الثروات، وزادت من النقمة الريفية.
حين استُقدم الدردري لأداء دوره في الاقتصاد، كان موظفاً دولياً استعان به بشار الأسد بنصيحة مستشاره نبراس الفاضل... وبالمناسبة، هل هي صدفة بحتة أن يكون الفاضل أول من انقلب على الأسد من فريقه، وانضم إلى المجلس الوطني؟ وهل الأسد والسلطات السورية لم تكن تعرف ولاء الدردري الدولي وفكره وغاياته؟

شخصيته

شعر أبيض ملون بالبنّي. شارب أبيض مشقر خفيف تحت أنف النظارات، وعينان دائمتا الحراك. في حديثه العام، يدرك السامع طائفته وتدينه وصومه وصلاته. يكره قدري جميل. يسوّق نفسه كإسلامي معتدل. مشكلته مع الشيوعيين في المعارضة رفضهم للإسلاميين. ثم يعقب أن الإسلام السوري صوفي وليس خطيراً، وأن في إقصائه خطيئة قد تدفعه نحو التطرف. في توصيف الأزمة السورية لا يخجل الدردري، الذي كان يملك أن يغير المعادلات الاقتصادية، أن يتذرع بمشكلات اقتصادية تبرر معارضته. يقول في مجالسه إن توزيع الوظائف على نحو غير عادل مرده محسوبيات ضباط الأمن. في مكتبه في دار الأمم المتحدة، ما عاد بإمكانه أن يتكلم مع الإعلام من دون إذن رسمي من قياداته... لكن ذلك لا يمنعه من التحدث على نحو عام عن الأزمة السورية والوضع الراهن مع زواره. أحياناً، يعدّ نفسه شريكاً في الخطأ وأحياناً يفخر بأنه أتى فاتحاً باسم التنمية على سوريا... يثير من حوله التساؤل. في مبنى الإسكوا يتهامسون بحثاً عن الدور الذي أتى ليؤديه هذا السوري، دوائر القرار السوري تتهامس ملقية بكل الأزمة على كاهله. وهو كما هو، بعلاقاته الدولية وخبراته السورية، في موقعه الجديد، يسخّرها لموظفه الجديد... ولقناعاته الدينية وصداقاته الإقليمية.
تميز الدردري في العقد الماضي. كان رجل العلاقات العامة على المستوى الدولي، ينسق مع الأتراك والأوروبيين. بحسب المصادر الاقتصادية الألمانية، هو رمز إصلاحي. منذ أول دخوله إلى الدولة حل ليؤدي دور منسق العهد الجديد، الذي عرف بربيع دمشق لاحقاً. بطل استحداث القطاع المصرفي، وبطل تحرير التجارة السورية، وفتح المعابر التي كانت مغلقة. علاقاته وقدرته على تدوير الزوايا والإقناع أخرجته منتصراً على خصومه. كانت مناكفات الحكومة تنتهي إلى اقتناع الجميع بنظريات الدردري. ما تجرأ أحد سواه على طرح موضوع «فلش» الاقتصاد السوري للغرب أمام القيادة القطرية لحزب البعث عام 2003. وأقنعها. يقول أحد الوزراء السابقين «كنا نقول لا تأتوا بالدردري ليشرح المشروع الذي نعارضه، وإلا فسوف يقنعنا».
مهما كانت الملاحظات على ولاءاته وتبدلاتها، وعلى دوره وانسحابه من المصيبة التي كان مسؤولاً عنها ربما، لا بد من رفع القبعة لرجل استطاع أن يلعب بنظافة ويمرر مبتغاه. أعدّ مقلباً كاملاً دون شوائب، أقنع الجميع بالمضي على مركب واحد، ثم خرج بقارب إنقاذ أزرق ليعود إلى بر الأمان في مؤسسته الأم مردداً: «أنا ابن الأمم المتحدة». اليوم، يرى الدردري المنقلب أن الحراك الشعبي السوري ليس طائفياً، لكنه بنكهة طائفية. بعد ذلك يفصّل أن «جزمة ابن الريف العسكرية» ما عاد بإمكانها أن تقود «ابن المدينة».
وتهمس أوساط الدردري أن الأميركيين سيصبرون على الأسد ليقوم بما يشبه «الهبوط السليم»، ويغيّر سوريا تدريجياً ليرحل بعد انتخابات في عام 2014. أما في صمود الاقتصاد السوري، فالرجل الذي حفظ تفاصيل الاقتصاد يبشر بأنه قادر على الصمود طويلاً. العقوبات ستؤثّر، يقول، لكن كم ستشتد؟ ويسأل، هل يستطيع العرب أن يغلقوا على أنفسهم الترانزيت التركي في سوريا؟
دردري اليوم، بفضل غطائه الجديد وشخصيته الجديدة، قادر على أن يتكلم بلسان المتمرد المعارض، وقادر على أن يقول إنه من أول «الثائرين» في معيار الثورة المتعارف عليه، لكن في المعيار المنطقي الوطني، لا يجوز أن تقل النقمة على الدردري إعلامياً وثورياً ومطلبياً عن النقمة على مخلوف أو على الأسد. في نهاية الأمر، مخلوف كيس أموال. أما الدردري، فهو صانعه وصانع أمثاله. وهو أيضاً من النادي الحاكم في عهد بشار الأسد. هنا تنتشر نظرية المؤامرة طائفياً ودولياً واقتصادياً، التي بدأت من قلب النظام قبل صراخ درعا البطل بسنوات.



دردري ــ مخلوف

ما بين الدردري ورامي مخلوف علاقة حب أفلاطونية. فالدردري خطا الخطوة الأولى التي فتحت أمام مخلوف إمبراطورية الاستثمار والصفقات، لكن مخلوف استطاع أن يصبح حالة منفصلة عن علاقات الدردري في بعض الأماكن. بقي التعاون قائماً حتى انفجرت سوريا، فأصبح عداءً علنياً.
وتنقل أوساط الدردري اليوم عنه نقمته على مخلوف وقطاع الاتصالات، فهو المكان الوحيد حيث احتمى مال الحكم، بعيداً عن الانفتاح الاقتصادي الدردري.
ثم إن الدردري الذي فتّح الاستثمارات، أراد أن يعمم قطاع الاتصالات بالطريقة المتبعة، هذا فضلاً عن أن مخلوف، الذي نسج علاقات اقتصادية مع العرب والأميركيين، بقي بعيداً عن الاستثمار في تركيا، ومرد ذلك بحسب المصادر، إلى ضغط الدردري في تركيا.
رجال أعمال سوريون «في بيروت» يصفون الشبكتين الاقتصاديتين:
كان للدردري محوره ولمخلوف محوره الآخر. إلا أن ذلك لا يمنع من تواصلهما الدائم. فمخلوف كان بحاجة إلى وظيفة الدردري الدولية، وموقعه الموضوعي كان يسمّع الرئيس أكثر.