تقدّم العجوز إلى الصفوف الأمامية ووقف وسط شباب يدافعون ببسالة ضد محاولات احتلال الشرطة ميدان التحرير، ووجّه كلامه إلى الشباب: «أرجوكم عودوا إلى الصفوف الخلفية، نحن فقراء ولم نتعلّم، وإذا متنا فعلى الأقل سنطمئن إلى أن هذه البلاد ستجد من يفيدها. أمّا نحن، فليس لدينا إلا حياتنا نفيد بها البلد». اهتزّ الشباب بهذه الحكمة، وتناقلوها أثناء الهدنة الليلية التي توسّط فيها الشيخ مظهر شاهين إمام مسجد عمر مكرم، نصف المدني ونصف الأزهري، صاحب الخطاب القريب من «لاهوت التحرير». الهدنة كُسرت. جاء الخبر بعد الفجر بساعات قليلة. مَن كسر الهدنة الليلية؟ الشرطة عادت للضرب، لكنهم يسرّبون للشخصيات العامة أن الثوار كسروا الهدنة ويريدون اقتحام وزارة الداخلية، وهو ما اشترطت السلطات عدم حصوله لالتزام الهدنة. هدنة؟ نعم، هي أجواء حرب كاملة: الضباط والعساكر بملابس جديدة، ميليشيات سوداء مدرَّبة في مواجهة طيف الثورة، شباب من كل التيارات السياسية، أغلبهم جيل عابر للتيارات، بينهم يسار وليبراليون ومدافعون عن الدولة المدنية، وسلفيون وإخوان أتوا بإراداتهم من دون مرجعيات تنظيمية. ماذا يريدون؟ يريدون نهاية حقيقية للدولة الأمنية التي يمثلها الآن كل من المجلس العسكري والشرطة. المجلس أعاد بناء جمهورية الخوف، وعطّل انتقال السلطة إلى المدنيين، ولم يتمِّم عمليات تطهير مؤسسات النظام، وأقام محاكمات عسكرية (١٢٠٠٠ يمثلون أمامها الآن) وفعّل قانون الطوارئ، وخطّط للوصاية على الدولة. أما الشرطة، فقد عادت بممارساتها التي كانت أهم أسباب ثورة 25 يناير، وقادت حرباً تأديبية على ثوّار ميدان التحرير بكل قوة نفسية لا تريد الانتقام فحسب، بل تسعى أيضاً إلى المشاركة في تركيبة الدولة الأمنية بعد التخلص من شريحة الوجوه المستهلكة في عصابة حسني مبارك.
العودة إلى نقطة الصفر إذاً. النظام الانتقالي هو بعناد مبارك، وجهازه القمعي شراسته زادت بعد استيعاب درس الثورة. الفوضى صنعها التدخل الأمني العنيف، في أول مواجهة بين المجتمع والشرطة وحدها من دون السند العسكري. الشرطة عادت إلى برنامجها القديم كاملاً، وهو ما مثّل نداءً إلى الثوار من جديد. عادوا ليجدوا القتلة أنفسهم، أضيف إليهم هذه المرة صائدو العيون. قنّاص العيون يفخر على موقعه في «الفايسبوك» بأنه ماهر وبارع. ماذا يقولون له كي يصوّب طلقاته إلى العين؟ هل أقنعوه بأن هذه هي طريقة الانتقام من «عيال التحرير»؟ هل قالوا له إن هذا هو الطريق الوحيد لحمايته وهو يمشي في الشارع؟ هل يعرف أنّ لكلّ من مالك مصطفى وأحمد حرارة وأحمد عبد الفتاح (3 شباب فقدوا أعينهم) القدرة على اللمعان في مجاله، لكنه اختار أن يشترك مع آخرين في حلم عمومي بالتغيير؟ هل يعرف أنهم يحلمون بدولة محترمة لا يُهان فيها أحد ولا يستخدم طموح أحد مثله لكي يستمر في الحكم؟ ماذا يقولون لمن يصوّبون مدافع القنابل أو بنادق الخرطوش؟ ما هي رسالة غسل الدماغ التي تجعل كل هؤلاء العسكر يواصلون قصف متظاهرين بأياديهم العارية في مواجهة دولة كاملة تنتقم من ثوار حطّموا «جمهورية الاستبداد»؟ دولة الاستبداد تدافع عن نفسها بعد هزيمتها الأولى في ١١ شباط، والتحالفات واضحة وأفرزت ميليشيات أمنية تقمع التظاهر بعد فشل كل فروع الشرطة في تحقيق الأمن. التحالف واضح مع ميليشيات إعلام تبث رسائل دعاية سوداء، تزرع الخوف في المجتمع وتنشر أكاذيب مضلَّلة هدفها الوحيد ترويض الشعب. إنها غازات سامة تنطلق من «ماسبيرو» لتدمِّر الضمير العام وتحوّل المتفرج إلى إنسان خامل يلعن في جلسته على الكنبة ضعفه وقلّة حيلته بالتعاطف مع الشرطة المسكينة التي تقتل المتظاهرين وتشرخ صدورهم وتخطف أعينهم لأنهم يدافعون عن أنفسهم بالحجارة. «ماسبيرو» و«لاظوغلي» (مقر وزارة الداخلية) قلاع الدولة الاستبدادية التي أعاد المجلس العسكري ترميمها لتكون في طليعة الدفاع عن المستبد إلى آخر رمق. لماذا يفعلون كل هذا؟ هل يتصوّرون أن الشعب الذي انطلقت روحه الثورية في الشوارع سيقبل الاستبداد مرة أخرى أو حق السير في شوارع بدون رعب من إهانات الضابط؟ هل يقولون للضابط صائد العيون إنه سيستعيد هيبته بتصفية العيون التي ترى الحقيقة وتسجّلها؟
لماذا استهدفت الشرطة المصوّرين؟ عيونهم تحديداً؟ إنها دلالة رمزية على الخوف من الحقيقة. الضابط يصطاد العين الصافية لكي يخفي جريمة كاملة لميليشيات الدفاع عن دولة الاستبداد. لمن تعمل هذه الميليشيات؟ هل هذا قرار غير معلَن من المجلس العسكري بتصفية الثوار وقتلهم وسحلهم في الميدان؟ أم أنه تعبير عن انقسامات في التعاطي مع الإصرار على الثورة؟ مجدداً، لماذا بنى المجلس ترساناته في «ماسبيرو» و«لاظوغلي»، بينما فشل في بناء أو إعادة بناء مؤسسات الاقتصاد والأمن والسياسة؟ إنها الخبرة الوحيدة لمجلس عسكري تربّى في دولة الاستبداد على أن الشعب وحش لا بد من ترويضه بمخدرات «ماسبيرو» وماكينة القمع في «لاظوغلي». هو أسلوب فشل في حماية مبارك، لكنه اليوم أكثر شراسة؛ لأن المضللين في «ماسبيرو» يعرفون أن هناك من سيحاسبهم، والقتلة في «لاظوغلي» يدركون أنهم لن ينجوا من المحاكمة. الحلف الخائف من الثورة ينشر العتمة، والثوار عيونهم صافية يرون أحلام مصر في دولة يعيش فيها الفرد بحرية وكرامة وعدالة. لا حل إذاً إلا بوقف العنف أولاً ومحاسبة المسؤولين بكل درجاتهم ورتبهم عن حفلات الرعب اليومية في ميدان التحرير، وهذه خطوة أولى تليها حزمة قرارات تخص تسليم السلطة في أسرع وقت وتغيير أسلوب إدارة المرحلة الانتقالية وتأليف لجنة لإعادة هيكلة الإعلام والشرطة. لم يعد هناك مجال لتفرُّد الدولة الاستبدادية بسطوتها، لأنه لم يعد هناك متَّسع لإخفاء الأحلام ومداراتها خجلاً من ظروف مصر الاستثنائية أو رعباً من آلة القتل والتعذيب والقمع. لم تنجح المحاكمات العسكرية، ولا الطوارئ، ولا مؤامرات الانفلات الأمني، ولا الفوضى المنظمة بأيد رسمية، ولا سيناريوات الفتنة الطائفية في بناء جمهورية الخوف من جديد، ولم يرجع الثوار رغم القتل والسحل واصطياد العيون الصافية ولا أمطار الغازات السامة التي تهطل قنابلها كل دقيقة. هذه رسالة إلى من يفهم: لا تراجع ولا استسلام.