«ابحث مع الشعب». غرافيتي على جدران ميدان التحرير. هذه هي الثورة، الشعب يسترد المساحات المخطوفة منذ ٦٠ سنة. المجتمع يخرج من القمقم ويطارد القتلة والقناصة. الغرافيتي تحت صورة ضابط قناص صوّب على عيون الثوار. الشعب يبحث…، بعدما كانت كل المسارات المدنية مغلقة، محاصرة، ممنوعة، في مقابل ارتباط كل ما هو صحيح بالجيش واللون العسكري.
الثورة هي إعلان قوة المجتمع. المجتمع استعاد أدوات الدولة التي صادرتها الأنظمة المستبدة، لم يعد العلم رمز الدولة بعسكريتها المفرطة، ولم يعد الخوف والتراجع أمام هيبة الأجهزة المستبدة رمز طاعة الدولة. المجلس العسكري بنى سارية عالية ليستعيد العلم من الشوارع، ولم يلتفت أحد، وأجهزة القمع بحثت عن جمهورها من البلطجية و«المواطنين الشرفاء». وهؤلاء لم يعد لهم وزن اجتماعي.
هزيمة المجلس العسكري الاساسية في عدم القدرة على إبعاد المجتمع وتحويل التظاهرة إلى طلب تغيير رئيس جمهورية وحكومة.
لم يعد هناك شرعية لحكم عسكري جديد، ولا لجمهورية عسكرتاريا مقنّعة بالملابس المدنية.
الحرب الكيماوية أثبتت أن الثورة عصية على الكسر؛ لأنها لم تدفع الآلاف لمغادرة الميدان، كذلك لم تنجح الحرب النفسية والإعلامية. الثورة لا تريد العودة عن بناء نظام ديموقراطي لا وصاية للعسكر عليه.
هذه حقيقة بسيطة تلخصها مطالب محددة: إبعاد المجلس العسكري عن إدارة العملية السياسية في انتقال السلطة وعودته إلى مهمة الحماية والأمن. العسكر أداروا البلاد بمنطق المتاهة لتحطيم أي مسارات مدنية للانتقال من الاستبداد إلى الديموقراطية، يريدون مساراً وحيداً يضع العسكر في برج الوصاية على الدولة ليتحول الانتقال من استبداد إلى استبداد مقنع.
المتاهة لها جنرالتها الموغلون في صناعة الخوف عبر تحالفاتهم مع جهاز القمع في الشرطة، أنعشوا قوته المهزومة في ٢٨ كانون الثاني، وحولوا السياسة من جديد إلى مشاوير بين المشرحة والسجن. الثورة عادت إلى الميادين، وهي مفاجأة جديدة لم يتوقعها المجلس وأجهزته العلنية والسرية، وفي حرب الشوارع لم تنجح قوات القمع من فرض هيبة الشرطة، لكنها كرست للعداء حرب تأديبية للثوار.
وهنا لم تعد سوى ورقة أخيرة: الاستفتاء أو استدعاء الشعب الخائف المذعور لمواجهة شرعية التحرير، ورقة أخيرة في مسار تهشيم الثورة التي نجحت عبر حلقاتها المتعددة في تحطيم أسطورة انتظار العسكري.
وما رأيك إذا أجرينا الآن استفتاءً على عودة الملك؟ الرجل كان حائراً. ماذا سيحدث إذا أُجري الاستفتاء. وزادت حيرته: «بالتأكيد وكالعادة أي استفتاء ستكون النتيجة نعم». الرد على الحيرة سؤال آخر: ماذا لو قالت الغالبية لا؟ أين سيذهب المجلس؟ هل سيعود إلى البيت وينام؟
الاستفتاء خدعة سخيفة يزايد بها المجلس على العواطف إلى المدى الأخير. يعرف أن الملايين ستخاف من الفوضى، ويتصور أنه يمكن أن يسحب شرعية التحرير بهذا الاستفتاء الذي سيكون أضحوكة الأمم.
الاستفتاء لعب على الخوف من الفوضى وثقافة «ماذا سنفعل بدون الجيش؟». «البلد ها تقع»، «الدولة ستنهار»، هذه الخرافات تنتشر كأنها الحقيقة من أجهزة علنية وسرية تطمس القواعد لكي لا ترى سواها.
الجيش مؤسسة من مؤسسات الدولة. ليس مؤسسة فوق الدولة، ولا دولة داخل الدولة. الجيش مؤسسة حماية لا حكم. هذا هو الوضع الطبيعي في أي دولة حديثة. الدولة الحديثة دولة مؤسسات، الجيش فيها يؤدي مهمة ولا يحكم.
الخلط متعمد لنشر مزيد من الرعب في ظل ترويج لخدعة أكبر اسمها: الاستبداد أو الفوضى. كل أنظمة الاستبداد لديها أداة واحدة عندما تواجهها المطالبات بالتغيير: إذا رحلت فستحل الفوضى.
لكن هذه الخدعة فات أوانها في مصر، والمجلس يحاول استهلاكها إلى آخر قطرة. المطلوب ليس رحيل المجلس عن مصر ولا عودة الجيش إلى البيوت. المطلوب تنحي المجلس عن إدارة العملية السياسية والعودة إلى المهمة الأصلية: الحماية، وتضاف إليها مهمة أخرى هي رعاية المرحلة الانتقالية.
الخلط يحدث هنا، ودعاية المجلس تروج خرافات قديمة جداً، لكنها صالحة لدهشة جمهور تعوّد الخوف من دون تفكير أو الطاعة لمن بيده الملك. جمهور تعرض لتربية قاسية ليكون خائفاً من الحرية وتكون أقصى أمانيه تحسين شروط العبودية لا الوصول إلى الحرية.
يقولون لهذا الجمهور: مصر ليست الميدان؟ نعم مصر ليست الميدان، لكن الميدان هو الثورة. والثورة ليست سباقاً على التصويت. الثورة مجموعة من المواطنين قرروا المخاطرة بحياتهم من أجل التغيير السياسي. وإذا فشلت المخاطرة فسيعلقون على المشانق وإذا نجحت فإنهم يحققون حلمهم بتغيير النظام.
ولأن مصر ليست ميدان التحرير، فإن الميدان لن يرجع إلا بعد إزالة الدولة الاستبدادية. والتحول إلى نظام ديموقراطي لا وصاية لمؤسسة ولا لفرد ولا لوكلاء الدين ولا لأي كيان اعتباري عليه. ولكي يفهم المجلس معنى الثورة، عليه أن يتذكر يوم ٢٣ يوليو ١٩٥٢ عندما خرج نحو ٥٠ ضابطاً من بيوتهم وخاطروا بحياتهم ضد الجميع، بمن فيهم الجيش، وأمام نجاح مخاطرتهم كان لهم الحق في تغيير النظام السياسي، وتخيل وقتها لو طلب الملك الاستفتاء على شعبيته أو على رغبة الناس في إنهاء النظام الملكي؟
اللعبة مكشوفة وتعبث بمستقبل مصر دفاعاً عن الإقامة في برج السلطة إلى الأبد. لا يريد المجلس الحكم… ممكن. لكنه يريد أن يبقي في البرج وصياً على الدولة، ولا يريد أن يحدث التغيير من التحرير، أي من المجتمع. يريد أن ينفذه على طريقته التي لا تتجاوز طلاء النظام.
على المجلس أن يتوقف عن الكلام على أضحوكة الاستفتاء لأنها دامية، وتلعب على احتياج الناس للأمان، ليس من حق المجلس المساومة بين تنفيذ مهمته في تحقيق الأمن وبين البقاء في السلطة رغم كل هذا الفشل. الجيش ملك للشعب وليس أداة للاستبداد.