هل سيخرج العسكر من الحكم بالانتخابات؟ سؤال على هامش الصدمة التي لم تكن صدمة كاملة بما يوصف على انه «اكتساح» للاخوان والسلفيين للمرحلة الاولى من الانتخابات التشريعية المصرية.الرعب يجعل النتيجة اكتساحاً ونسب التصويت الكبيرة كأنها انقلاب ضد الدولة الحديثة. الرعب هو سيد المشاعر في لحظات تنتقل فيها مصر من حالة الى حالة بإيقاع لاهث بين مواجهة سلطة العسكر، الى صراعات حول احتلال المجال السياسي المحرر، ومن حرب الثوار ضد قوات الشرطة في شارع محمد محمود الى «غزوة» الصناديق بتحالف غير معلن حتى الآن بين «الاخوان» و«السلفيين».
في قاعات الفرز فقط سُمع هتاف «الاخوان والنور... ايد واحدة»، لكن التصريحات الصحافية انكرت التحالف، في محاولة لتخفيف حدة الرعب من انقلاب الصندوق. لكن الرعب كبير لا يتيح التفكير ولا ادراك أن نسبة الاخوان كبيرة، لكنها ليست اكتساحاً.
الإخوان حصلوا على 34% من الاصوات في المرحلة الأولى، وهذا يعني ان الاغلبية المطلقة لن تتحقق الا اذا اعلن تحالف الاخوان مع السلفيين بنسبتهم الـ24٪. النسبة لا تستحق كل هذا الفزع، لأن في مواجهتها تصاعداً لقوى «ليبرالية» تقودها «الكتلة المصرية» بما لديها من قدرة على جذب قوى تصويتية جديدة (خاصة في قطاعات غابت السنوات الاخيرة عن التصويت مثل المسيحيين او القوى الاجتماعية الخائفة من هجمات الاسلام السياسي ضد الحداثة).
الفزع اذن ليس من النتيجة، بل من طبيعة المعركة الانتخابية وعنوانها الرئيسي كأنها مواجهة بين تيار علماني وتيار اسلامي. تحت هذا العنوان تدور الحرب على «الشعب». المجلس العسكري يحمي الديموقراطية بالمدرعات، ويفخر بالاقبال على التصويت. و«الشعب» مراوغ، وقف بالطوابير امام الانتخابات إما لابعاد العسكر عن الحكم، او خوفاً من غرامة الـ٥٠٠ جنيه او التزاماً بصفقاته مع المرشحين.
لم يكن «شعباً» واحداً، وقبل الثورة كان الشعب يدرك انه كومبارس، يدخل المسرحية في لحظة يحددها المخرج، والشطار وحدهم استغلوا هذا الموقع، وبدلاً من القبول بالصمت الاضطراري، قرروا بيع هذه الارادة اما بالمال او بمبايعة مركز القوة.
لا تزال تجارة الارادة فاعلة، ربما بدرجة لم تكن متوقعة، ولا يزال صوت المال مسموعاً في الانتخابات، وتجارة الاصوات، رغم عدم شرعيتها، رائجة. لا يخفى على المراقب لأول انتخابات بعد الثورة حجم الرشى الانتخابية واستغلال حالة الفقر في تغيب الارادة. هناك من الناخبين من لم ير مرشحه، لكنه رأى بطانيته او كيس معوناته او ورقة الخمسين جنيهاً المرسلة منه. وهناك متحمس سار في هدي شيوخه ليحرر البلاد من الكفرة والمشركين، وهناك من سار وراء تعليمات كنيسته وعلّم على قائمة موجهة اعدتها جمعيات موثوق فيها او لجنة المواطنة باستضافتها شخصيات بعينها توجيهها واضح.
العناصر الجديدة لم يكن تأثيرها بنفس القوة. ولهذا انتصر من لعب على العناصر القديمة، مستغلاً تخلف وبدائية العملية الانتخابية. وانتصر ايضاً صاحب الصوت العالي، المتطرف الذي يتصور أن الديموقراطية طريقه لتحقيق ما فشل فيه بالارهاب، ويتصور أنها المعركة الاخيرة التي سيخطف فيها الدولة.
هذ هو حصاد مبارك المر يتجرعه المجتمع المصري قطرة قطرة، وخصوصاً أن الثورة لم تفعل سوى تحرير الملعب من اسواره العالية لكنها لن تنجح بين يوم وليلة في تغيير اللاعبين ولا عقلية اللعب.
مشهد النعوش في جمعة شهداء شارع محمد محمود مؤلم يقول ان الثورة مستمرة. والانتخابات تؤكد أن نظام مبارك مستمر ايضاً. الثورة في حالة ترقب وحذر، لكنها لم تفقد قوتها في الحضور.
المال السياسي يلعب لصالح احياء القوى المضطهدة من النظام، ويقود عملية تجارة كبيرة بالديموقراطية. لا لون لهذه التجارة، استخدمها الجميع: ليبراليون واسلاميون. وتاجروا في كوارث مبارك: الفقر والجهل والحاجة.
ماذا يعني اذا فاز الاخوان بالانتخابات؟ هذه بالتأكيد ليست نهاية العالم، ولا دمار للدولة الحديثة، ولا اعلان لدولة الفقهاء. الاخوان فازوا كحزب سياسي لا كجماعة، وبين مرشحيهم شخصيات لم تعرف العمل السياسي من قبل، لكنهم انضموا الى «الحرية والعدالة» متأثرين بفكرة التنظيم القوي، لا بفكرة دولة الخلافة ولا غيرها من اوهام تتسلى الفضائيات باستضافة اصحابها.
المدهش أن حزب الاخوان في لحظة بدا كأنه يتقدم في حرب وراثة دور الحزب الوطني، وهذا ما جعله يبدو سلطة تنجذب اليها الاصوات الباحثة عمن يشتريها او يكافئها بمنح الزيت والسكر او باطمئنان الى الوعد بأن اختيار مرشح الاخوان هو اختيار الاسلام، وبهذا يكون قد ارضى ربه ولم يخسر النفحات الدنيوية.
تجار الاصوات محترفون في دولة استبداد. وتجارة الاصوات لا دين لها ولا انتماء سياسياً، بضاعتها الاولى استغلال الفقر والجهل، تغييب الارادة اما بالمال او باللعب على العواطف الدينية او تصوير الانتخابات على انها معركة بين المسلمين والمسيحيين. الاخوان هم المسلمون بينما الكتلة المصرية هم المسيحيون او فريق الكنيسة.
الكتلة هي تحالف انتخابي بين حزب المصريين الاحرار الذي يتصدره رجل الاعمال نجيب ساويرس، والحزب المصري الديموقراطي الاجتماعي بأجنحته الديموقراطية والاخرى القريبة من اليسار الديموقراطي. يشترك في الكتلة ايضا حزب التجمع المعروف بأنه تحالف بين قوى يسارية وقومية، لكنها انفضت من حوله بعد اقترابه من السلطة.
ورغم الارتباك بين نبل الثورة والاستسلام لمنطق تجار الديموقراطية، بدت الكتلة المنافس الاقوى بعد غياب الوفد عن المشهد رغم انه الحزب الاقدم في مصر، والمرشح لاتساع مساحته بعد غياب الحزب الوطني. ايضاً لم يكن لاحزاب الفلول السبعة وجود في المرحلة الاولى، بينما شاكست قائمة «الثورة مستمرة» في بعض الدوائر رغم انها لم تدخل مزاج الانتخابات تقريبا الا في الايام الاخيرة.
لعبت الاطراف المتصارعة على قواعد تجارة ممنوعة، تكتسب مشروعيتها من واقعيتها المفرطة، وهنا تتصادم الانتخابات مع الثورة بنت الخيال والقوى المتحررة من الواقع المباشر. الثورة حررت المجال السياسي، لتفاجأ بقطعان كانت نائمة في كنف سلطة الاستبداد، يعلو صوتها مطالبة بالحكم لأن «اسلامها حقيقي»، بينما الآخرون كلهم «لا يقبل اسلامهم». هؤلاء ضحية الاستبداد ويريدون الآن ان يكونوا جلادين.
السلفيون جميعاً ليسوا عبد المنعم الشحات طبعاً ولا صلاح ابو اسماعيل، كلاهما من صنف الكائنات التلفزيونية، يستمتعان بتقديم استعراضات تثير الدهشة والرعب. والاخوان لم يصلوا فقط بسبب نباهتهم في التجارة السياسية، بل لأن هناك من يريد تجربتهم.
الازمة ان الديموقراطية ليست حلّاً سحرياً، كما انها ليست صندوق انتخابات، لكنها عملية كاملة، وبنية تحتية ترتبط بحرية العمل السياسي وبناء مؤسسات قوية وتوسيع مجال الحريات العامة والخاصة.
الديموقراطية تداول للسلطة وليست حرباً لخطف الدولة كما فعل هتلر عندما وصل بالديموقراطية ليحول المانيا الى دولة فاشية. انتهى هذا العصر، كما انتهى العصر الذي تستدعي فيه دولة الجنرالات كل جبروتها للقضاء على الاسلاميين.
الصورة اذن بعد الانتخابات: مومياء تعود الى الحياة، هذا هو النظام القديم ممثلاً في المجلس العسكري وكمال الجنزوري، مبعوث العناية لانقاذ المجلس من مأزق الشرعية. المدهش أن هذه المومياء هي مصدر امان للبعض، لأنه سينقذ البلد من هجوم الكائنات القادمة من عالم خرافي لتحكم وتسيطر.
حرب المومياء والكائنات الخرافية تشتعل بينما الثورة تحمل نعوشها وتغني لهم... من سينتصر. المعركة لم تحسم بعد، وهذه ليست الجولة الاخيرة بالطبع.