أطلق عليها اسم «عاصمة الثورة»، بعد تحول الأنظار نحوها. الإحصاءات المتداولة عن عدد ضحايا الأحداث في سوريا تشير إلى أن ما يقارب ثلثهم تقريباً سقطوا في حمص التي خرج منها عدة رؤساء للجمهورية، وكثيراً ما يردد المعارضون، بنشوة الواثق من إسقاط النظام، أن الرئيس القادم من حمص.
هي المدينة التي بلغ التوتر فيها مستوى جنون الدم، حيث عاشت ساعات من غيبوبة العقل قبل نحو أسبوعين، وسقط عشرات القتلى في حوادث قتل انتقامية عبر الأحياء، فجّرها إعدام أربعة من أهالي حي الزهراء بالقرب من جامع خالد بن الوليد، في الوقت الذي كانت تبث فيه فضائيات عربية أنباءً غير صحيحة عن تعرّضه للقصف.
الجريمة تزامنت مع هجمات على معظم الحواجز الأمنية، ما قطع حركة التنقل بين الأحياء، لتغزو أخبار القتل والخطف النفوس المحتقنة لمن فقدوا أقارب، وتسبّب حالة هياج تشهدها المدينة لأول مرة، بلغت على أثرها حصيلة القتلى 51 ضحية، نصفهم تقريباً سقطوا في حي الزهراء ومحيطه. وهو ما عبّر عنه احد إعلاميي المدينة بالقول «قتل كل من كان موجوداً في الزمان الخطأ، في المكان الخطأ».

روايتان لكل شيء

في حمص روايتان للأحداث تتطابقان في كل شيء ما عدا الأسماء والمسؤولية. فكل طرف اضطر إلى الخطف لتحرير بناته وأبنائه المخطوفين، وكل طرف يرى أن الطرف الآخر هو من يقتل، وكل طرف هو الوطني المتمسك بالوحدة الوطنية وغريمه لا، والقتلى الأبرياء هم أبناء حيّه أو طائفته فقط.
المفارقة أن عميداً في الجيش قتل مع طفليه وطفل شقيقه أثناء مروره في حي ساخن، تختلف الروايتان على انتمائه الطائفي؛ مؤيّدون يرون أنه قُتل على أيدي التكفيريين لأنه من طائفة غير طائفتهم، ومحتجّون يقولون إنه من عائلة التلاوي الحمصية، وقتله الأمن لاتهام المحتجين وتشويه سلميّتهم، ويصل الأمر مع البعض إلى تأكيد أنه قتل بسبب رفضه إطلاق النار على المتظاهرين.
الرواية الثالثة العقلانية تتنحّى في ظل الاستقطاب الحاد. العميد الشهيد قُتل لأن سيارته عسكرية فقط، رغم وجود أطفاله معه، ومن قتله قد لا تعنيه طائفته، بل يعنيه توجيه ضربات موجعة إلى السلطة تستفزّها وتفقدها صوابها، وتستدرج قمعاً أشد، وجرّ الاحتجاج إلى ساحة مختلفة تحت وقع القمع والدم، لكنّ هذا الصوت صارخ في برية لا صدى له في حمص.

في الخالدية

الصور الليلية الزاهية لما يسمّيه المحتجون «مسائيات» حيث الكاميرا ضعيفة الدقة مركّزة على مئات من المحتجين، يتمايلون مع أهازيجهم، لا تشبه البتّة مشهد الحي نهاراً. أكوام القمامة تنتشر في كل مكان، رائحة الخراب والدم، وجدران مرّت عليها ألوان طلاء مختلفة لشعارات وشعارات مضادة، فيما اللون الأسود أخيراً يلقي بثقله على كل كلام في السياسة. مجنّدون بعمر الزهور خلف متاريسهم الرملية أيديهم على الزناد وعيونهم تخشى رصاصة قناص أو قذيفة آر بي جي كثيراً ما تسقط بعيدة عنهم عشرات الأمتار.
الشعارات على جدران الشوارع الرئيسة، وقد طُلي فوقها باللون الأسود، تشي بأنها مناهضة للنظام. وفي الشوارع الفرعية يمكن تلمّس الكثير منها، وهي تتراوح بين الشتائم البذيئة والخطاب السياسي المتّزن.
شبان في مداخل الحارات والشوارع الفرعية يلتقطون كل حركة مريبة. محاولات الحديث معهم فاشلة، «لن يصحّ إلا الصحيح»، و«الله يفعل ما يريد». الشكوك والمخاوف من هوية محدّثهم تدفع إلى إجابات تلقي كلّ شيء على الإرادة الإلهية: «الله معنا ومع الحق ولن يخذلنا».
حسان الذي يملك أهله محلاً في سوق المدينة، ويقارب كل القضايا بفكاهة، اندفع في الحديث «كل ما جرى هو من فعل النظام. كانت التظاهرات سلمية، ومطالبها واضحة، هو استخدم العنف وأحضر شبان الطوائف الأخرى لقمعنا، وهذا الأمر حساس بالنسبة إلينا، ولا يمكن أن نقبل القتل ونسكت، وقد انقلب السحر على الساحر».
لا يقبل حسان الحديث عمّا بعد النظام أو سبب كون ما سمّاه «شباب الطوائف الأخرى» خارج الحراك، وفوق ذلك هم أداة السلطة للقمع وفق تعبيره، «نسقط النظام وبعدها مرحلة انتقالية مثل مصر وتونس»، قبل أن يعود إلى الفكاهة ضاحكاً «والرئيس القادم من حمص حتماً، وبغير ذلك لن نرضى».
يؤكد أحد الناشطين المعارضين، وهو من سكان الحي، أن «الجرائم الطائفية التي ارتكبت في حمص هي من فعل الأمن، لتفجير فتنة بين السنيين والعلويين». ويتابع «فشروا، الثورة السورية السلمية مستمرة، ولن تنجر إلى الفتنة، وسنسقط نظام بشار الأسد بالعصيان المدني، ويوم الجمعة المقبل سيكون إضراب الكرامة شاملاً في حمص». لدى الناشط يقين لا يساوره أدنى شك في أن «جميع من قتلوا في حمص من الطائفة الأخرى سقطوا على أيدي الأمن وعصاباته، من أجل دفع طائفتهم إلى الرد وقتل أبناء طائفته، التي وصف ثوراها بـ«اليقظين لمحاولات جرّهم إلى الفتنة الطائفية».
كلام الناشط يربط لسان أسامة، وهو متخرّج في معهد طبّي مؤيّد للنظام، ثم يردد «الفتنة الطائفية صارت حقيقة منذ قتل تمام المحمود ورفيقيه بعد إجباره على الاعتراف بأنه أحضر قناصة من حزب الله إلى حمص وحماة»، مؤكداً أن «عشرات الجرائم الطائفية منذ بداية الاحتجاج قام بها مسلحون تُعتبر التظاهرات حاضنتهم، وكل المتظاهرين يعرفون أن هؤلاء هم من يقتل الآخرين ويقيم الحواجز ويخطف منذ قتل العميد عبدو التلاوي وأطفاله في نيسان حتى اليوم».

الخطف معادلة ردع

قبل استعار الصراع المسلح لم تحدث حوادث خطف. الخطف تفشّى مع ظهور المسلحين وفرض سيطرتهم على الشوارع، واعتقال الكثير منهم. في الوقت نفسه اكتملت دائرة الخطف بقبول الطرف الآخر المؤيّد للنظام قوانين اللعبة :الخطف مقابل الخطف.
لا أرقام موثوقة عن أعداد المخطوفين، لكنّ قضيتهم هي القضية الرقم واحد في حي الزهراء وتوابعه، وتتراجع أهميتها في بقية أحياء المدينة حيث يغلب المعارضون أو الموالون على حدّ سواء.
يشرح ضابط متقاعد القضية، فيشير إلى أن «المسلحين أرادوا ليّ ذراع السلطة عبر خطف المؤيّدين لها من أحياء طائفة أخرى، بعد فشل حوادث خطف عناصرها والتهديد بقتلهم ثم تنفيذ ذلك، وقتل الكثير من العناصر والجنود». ويضيف «السلطة لن تنصاع لهم حكماً. لا يوجد سلطة تقبل معادلة كهذه، ولو جرى قتل عناصرها، الأمر الذي أدى بالمسلحين إلى خطف مؤيّدين ونساء حتى، من طائفة أخرى». وسيم إبراهيم، شاب خطفت ابنة عمه المقيمة في حي الزهراء، وحُرّرت بعد أقل من يومين. يتحدث بثقة «هل ننتظر الدولة لتعيد لنا بناتنا وشبّاننا وهي لا تستطيع أصلاً حماية عناصرها وتحريرهم؟». ويضيف «ببساطة خطفنا بنتين من حي جب الجندلي فجرى تحريرها، وإذا خطفوا لنا بنتين فسنخطف لهم خمسة، والبادئ أظلم».
حوادث الخطف بما هي وسيلة للضغط ومعادلة «رعب» بين معسكرين، خلقت دوراً رفيعاً لشريحة جديدة، هي «الوجهاء». عبارة تسلّل ذكرها إلى الإعلام الرسمي الذي بات يتحدث عن تحرير مخطوفين بمساعي الجهات المختصة، ويقصد بها أجهزة الأمن والوجهاء.
الإعلام الرسمي تحدث عن تحرير أب وابنيه من عائلة كنيار خطفوا في بابا عمرو خلال حضورهم لتفقّد منزلهم الذي اضطروا إلى مغادرته إثر تفاقم أعمال العنف بعد مساع بين وجهاء حي عكرمة، ووجهاء حي بابا عمرو.
ولا ينكر أحمد، وهو طالب جامعي، أنه يوجد في حيّه المؤيد للنظام من خطفَ وقتلَ مواطنين من الفريق الآخر، ولكنه يعتبر ذلك رداً على القتل، وفي فورة دم أو خطف لتحرير بنات وشباب مخطوفين لدى الجهة الأخرى، مشيراً إلى أنه «عندما لا تحمينا الدولة ونصبح مكسر عصا، فسنحمل السلاح وندافع عن أنفسنا». ويضيف «إذا اعتقلت الدولة مطلوباً من المسلحين أو المعارضة، يخطفون بناتاً وشباناً من طائفتنا للمقايضة بهم. هذه هي الثورة السورية على حقيقتها. مشكلتكم مع النظام نحن ما ذنبنا؟ ثم تعيبون علينا أننا نقف مع النظام».


بابا عمرو

لا يمكن الدخول إلى حي بابا عمرو إلا مع صديق. فشلت محاولة الاستعانة بصديق، ولم يبق سوى الاستعانة بسائق من المنطقة نفسها. لا يمكن إخفاء هوية صحافي عنه. من قَبل موضوع الصحبة إلى بابا عمرو، أعلن عدم مسؤوليته عن أي خطر وهو «محدق بكل غريب». راكان سائق من بابا عمرو نصح بعدم الذهاب دون ضمانة من «الثوار»، وأنكر معرفة أي منهم. وأوضح «نحن نريد الأمان، أمرّ على حاجز للثوار فأقول لهم الله يحميكم وينصركم، ثم أصل إلى حاجز الجيش فأقول لهم الله يحميكم وينصركم، وبغير هذا لا أضمن سلامتي».
ثم يروي السائق قصة جاره الذي اشترى سيارة سياحية من شخص ينتمي إلى طائفة أخرى، وتبيّن أن صاحبها السابق مطلوب لما سمّاه «جهاز أمن الثورة». في المرة الأولى «أوقفه مسلحون، وانهالوا عليه بضرب مبرح، معتقدين أنه المطلوب من الطائفة الأخرى. وسرعان ما أثبت لهم أنه من سكان بابا عمرو، فتركوه». ويضيف راكان «المرة الثانية لم يوقفه أحد ولكن انهمر الرصاص على السيارة التي كان يقودها ابنه في بابا عمرو، الحي الذي يقيم فيه. لم يقتل ولكنه أصيب بعدة رصاصات». يسخر الشاب من الأمر قائلاً «يبدو أن الضحية تعرض لرصاص جهاز أمن ثورة آخر».
ويواصل تبرّمه من الوضع المزري الذي وصلت إليه حمص: «يا أخي نحن إخوة من أين جاءتنا الطائفية؟ طيب، الذي اشترى السيارة ما ذنبه؟ ولو كان الأمر عكس ذلك، ما ذنب شخص من عكرمة اشترى سيارة شخص مطلوب من بابا عمرو». وينهي كلامه «الله يلطف فينا ويخلصها على خير».
نور الدين يعيش في حي جب الجندلي الذي يسيطر عليه المسلحون يقول «لا يمكن رأياً حر أن يستمر هنا. السلمية وحلم التغيير وإنهاء الاستبداد تحوّلت إلى كابوس حملة السلاح الذين قدموا أنفسهم كحماة للتظاهرات». ويضيف «يستهدفون الجيش والأمن، وذات مرة استهدفوا صهريجاً يملأ المازوت للمواطنين من طائفة أخرى، أطلقوا عليه النار وقذيفة آر بي جي أصابت أحد البيوت ولم تصبه. تخيّل لو أنهم أصابوه، كانت حصلت كارثة كبرى». ويضيف «لا أحد يريد أن يصدق قصة المسلحين حتى يقتلوا أحد أبنائه بالخطأ أو قصداً، لقد أصبحت حياتنا جحيماً بسببهم». وينهي كلامه ساخراً «إنهم لا يصيبون شيئاً. اشتهيت أن تصيب قذيفة آر بي جي أي هدف. منذ بداية الأزمة قرأت عن أكثر من 50 هجوماً وإبادة لحاجز دوار الفدعوس القريب من بيتي، وهذا لا يدل على كذبهم فقط ومبالغاتهم، بل على أنهم ليسوا منشقين، بل مجموعة من أرباب السوابق والمغرر بهم».
كلام نور الدين لا يثير سوى امتعاض صديقه المعارض العلماني الآخر ياسر، «الأمن مسؤول عن كل شيء، هو من لعب الورقة الطائفية لمنع التظاهرات من الازدياد، ووجود مسلحين في بداية الأزمة كان يحتّم عليه أن ينصاع لمطالب الشعب». ويشكّك الشاب في الإعلام السوري، «على النظام أن يفتح سوريا للإعلام الحر لنقل ما يجري بدقة، والكف عن اللعب بالحساسيات الطائفية»، لافتاً إلى أن «الحراك تَبِعَ الشيخ العرعور لأنه منذ البداية وقف مع الثورة»، من دون أن يغفل توجيه انتقاد حاد إلى كل وسائل الإعلام التي «تعتّم على نشاط العلمانيين واليساريين، وخصوصاً تجمّع نبض للشباب المدني الذي له دور كبير في حمص، ويشارك في التظاهرات، ويخفف من الاحتقان الطائفي».
أبو خالد من عشيرة البكارة الشهيرة والكبيرة في سوريا، ترك حلب للإقامة في حمص منذ عشرين سنة، وتحديداً في حي البياضة، يقول «ببساطة، هؤلاء زعران لا أكثر ولا أقل، أصبحوا يرفعون لافتات تطالب بالحماية من مقاتلي مقتدى الصدر وأعضاء حزب الشيطان، وأنا اعتذر للكلمة، ولكن هم يصفون حزب الله بحزب الشيطان أو اللات، ويرفعون لافتات تحيّي تيار المستقبل. يبدو أنه تصلهم أموال منه».
ويضيف «أنا أعرف تماماً أن هذا هو محض كذب وافتراء، ولكن هل يجرؤ أحد منا على مناقشتهم؟ هم يرون أن كل ما يقوله عدنان العرعور، ويعرضه لهم من فيديوات مفبركة ومضحكة، هو كلام منزل، مهما كان سوقياً أو عارياً من الصحة». ويتنهّد ثم يقول «أنا إنسان عادي. فرحت لسقوط مبارك لأنه عميل، ولكن بشار إنسان جيد وهو وطني وضد إسرائيل، وعندما يشتمون حسن نصر الله في الحي أنا أحزن وأقول سامحنا يا نصر الله». ثم يقول بلا تردد «أنا مؤيّد للرئيس بشار وأرفض شتمه، لكن عندي أن شتم نصر الله هو من الكبائر، لأنه رجل مختص بمحاربة إسرائيل، ولا يشتمه إلا عميل أو مجنون».




... وللإضراب روايتان

عشية انطلاق إضراب الكرامة الذي دعت إليه التنسيقيات المؤيّدة للاحتجاجات السورية بهدف دفع النظام إلى الاستجابة لعدد من المطالب، قام سكان مدينة حمص بحملة تموين كبيرة نتج منها إفراع المتاجر من السلع الغذائية والضرورية.
وهنا أيضاً تستمر الروايتان بالانفصال والتضاد المطلق، في محاولة لتفسير أسباب الإقبال الكبير لسكان المدينة على تأمين الاحتياجات الغذائية لأسرهم.
معارضون منتشون بحركة الأسواق يوم السبت للدلالة على أن ذلك استعداد من الأهالي للتزوّد بما يلزم، لأن إضراب الكرامة سيكون شاملاً وطويلاً، وخصوصاً أن من بين أهدافهم الطويلة المدى الوصول إلى حالة العصيان المدني.
أما المؤيّدون فيرون أن الإقبال الكبير على شراء السلع ليس سوى استعداد للعملية الأمنية التي تتردد الشائعات القوية عن عزم الجيش القيام بها لتخليص حمص من «المسلحين العراعرة الذين يفرضون الإضرابات بقوة السلاح، ويعيثون فساداً في المدينة».