لا يكاد وزير الدفاع الإسرائيلي، إيهود باراك، يفوّت مناسبة من دون التأكيد على قوة إسرائيل وتفوقها العسكري في مواجهة محيطها المعادي القريب والبعيد. التعبير عن ذلك يأخذ أشكالاً متعددة. فتارة هو يتحدث عن كون «إسرائيل هي الدولة الأقوى ضمن شعاع 1500 كلم»، وطوراً يلفت إلى أنها «الدولة الأقوى من طرابس (الغرب) إلى طهران». وفي معظم الأحيان يشدد على جهوزية الجيش الإسرائيلي واستعداده الدائم لخوض الحروب وتحقيق الانتصار الحاسم فيها، دون أيّ لبس. الحرص اللافت لباراك على استحضار هذا المعنى على نحو متكرر يثير تساؤلاً بشأن الدوافع الكامنة وراء ذلك. البداهة تدفع إلى الاستنتاج الأولي بأن ثمة خشية ضمنية لدى باراك من عدم حضور المعاني المتعلقة بالاقتدار الإسرائيلي في أذهان أعداء تل أبيب، وتالياً هو يسعى إلى إثارتها والتذكير بها علناً لمنع الحسابات الخاطئة من قبل هؤلاء. وإلا، إذا كان تفوق إسرائيل أمرا مسلّماً به على مستوى المنطقة، فما الذي يدعو إلى تكراره بمناسبة وبغير مناسبة! برغم ذلك، يبقى التساؤل عن مبعث ومبررات القلق الذي أصبح من الواضح أن إسرائيل تعيشه منذ فترة، والذي يمكن القول إن التذكير الدائم بتفوقها العسكري هو مجرد انعكاس له. للإجابة عن ذلك، لا ينبغي البحث بعيداً. تكفي قراءة العدد الأخير للتقرير الاستراتيجي السنوى الذي يصدره معهد أبحاث الأمن القومي التابع لجامعة تل أبيب. خلاصة التقرير الذي صدر قبل أسابيع، والذي يُعنى بتشريح الوضع الاستراتيجي لإسرائيل على صعد مختلفة، تتحدث بوضوح عن «تدهور إضافي ملحوظ حصل خلال العام الماضي لوضع إسرائيل الاستراتيجي» أدى إلى «زيادة مهمة في التحديات التي تواجهها الدولة ». ويعزو التقرير، الذي وُصف بالأكثر سوداوية منذ بدأ المعهد ينشر تقديراته السنوية عام 1983، هذا التدهور إلى «تضافر ثلاثة مسارات تأزيمية في البيئة الاستراتيجية لإسرائيل: انهيار عملية السلام، ضعف الولايات المتحدة الأميركية، والربيع العربي». ويرى أن «هذه التطورات الثلاثة، مجتمعة ومنفردة، تهدد بإحداث أزمات جديدة، وبتصعيب حل الأزمات القائمة المعروفة، أو بالإثقال على إدارتها».
يمضي التقرير في شرح المفاعيل السلبية لكل واحد من هذه المسارات على واقع إسرائيل السياسي الإقليمي والدولي. فانهيار عملية السلام يؤسس لعزلة دولية ضد إسرائيل، و«لاستمرار عملية نزع الشرعية التي تفضي إلى إضعاف ملحوظ في مكانة إسرائيل السياسية، وإلى قيود شديدة على حرية الجيش الإسرائيلي في عملياته». وضعف الولايات المتحدة «يسلب إسرائيل مكوناً رئيساً في صورتها الردعية، وهذا الوضع يُمكّن جهات أخرى من محاولة أداء دور في الشرق الأوسط بصورة لا تخدم مصالح إسرائيل». أما الربيع العربي، فيُخشى من «انعدام الاستقرار» الذي يعصف بالدول العربية جراءه، وبالأخص من أن يفضي إلى سيطرة الإسلاميين من جهة، أو يقود ـــــ من جهة أخرى ـــــ نحو انتهاج الدول التي تبدلت فيها الأنظمة سياسات شعبوية تُحوّل إسرائيل إلى «شماعة» تُعلق عليها مشكلات العالم العربي الداخلية، وتجعلها عنواناً لغضب الجموع في شارعه الثائر.
شروح التقرير استفاضت في توضيح هذه المفاعيل وآثارها على إسرائيل، لكنها بقيت قاصرة عن تحديد العنوان الكّلي الذي يختصر الدلالات المباشرة والأهم للمسارات الثلاثة، وهو أن إسرائيل باتت تسير على طريق فقدان الركائز الأساسية التي تمنحها قوتها السياسية، وتالياً هي على وشك أن تصبح مجردة من هذه القوة، في مواجهة التهديدات التي لطالما أحاطت بها.
كيف ذلك؟ المعلوم أن الولايات المتحدة أتاحت لإسرائيل مظلة سياسية تحركت تحتها في كل اتجاه. هذه المظلة أمدّت تل أبيب بحصانة دولية ضد الإدانات، وفي مواجهة الضغوط، كما مثّلت جسراً لعبور إسرائيل نحو العالم العربي في ما سُمي عملية السلام. حتى في إطار هذه العملية، أدّت واشنطن دور الرافعة في تكريس الثوابت الإسرائيلية، وفرضها على الجانب العربي، الخاضع لإرادة العم سام، كما أن الارتباط بعلاقة خاصة مع الولايات المتحدة مثل ضمانة استراتيجية بالنسبة إلى إسرائيل في مواجهة التحولات الكبرى على مستوى بيئتها الاستراتيجية (سقوط الشاه، الانعطافة في السياسة التركية )، حيث أفادت تل أبيب من السطوة السياسية لواشنطن للحد من التداعيات السلبية لهذه التحولات.
الركيزة الثانية التي استندت إليها إسرائيل في حضورها السياسي الإقليمي، كانت اتفاقية كامب ديفيد. هذه الاتفاقية أخرجت أكبر أعداء إسرائيل من دائرة الصراع، وأسست مع الوقت لتحالف استراتيجي مع أهم الدول العربية وأكثرها التصاقاً بالقضية الفلسطينية. وقد انعكس هذا التحالف ليس فقط في تأمين مظلة سياسية عربية أطلقت يد إسرائيل العسكرية على جبهات المقاومة في غير مرة، بل أيضاً في بلورة محور إقليمي ـــــ هو محور دول الاعتدال ـــــ كانت تل أبيب أحد الأعضاء الفاعلين فيه، وإن من وراء الكواليس.
أما عملية السلام، فقد كرست الاعتراف السياسي الضمني بإسرائيل على الصعيد الإقليمي، ومنحتها هامشاً واسعاً للمناورة على الساحة الدولية. حتى إن ضلوع إسرائيل في هذه العملية أصبح مفتاحاً لكل باب مغلق أمامها، وضرورةً سياسية عالمية ينبغي الحفاظ عليها، والعمل على تلبية متطلباتها بوصفها دعامة الاستقرار في الشرق الأوسط، ومدخلاً إلى معالجة مشكلاته المستعصية، كإيران وحلفائها.
استناداً إلى ما تقدم، لا مبالغة في القول إن العوامل الثلاثة المذكورة تحديداً هي التي كفلت الحضور السياسي لإسرائيل في المنطقة، وأمدتها بأسباب الفعالية في إطار ممارستها لهذا الحضور. ومع انتكاس هذه العوامل، وبدء انهيارها الواحد تلو الآخر، فإن إسرائيل بدأت تشعر في قرارة نفسها بأنها مهددة باستمرار نفوذها السياسي الإقليمي، وتقدر ـــــ ضمناَ ـــــ أن مآل المسارات الثلاثة التي انطلقت خلال العام الأخير لن يكون سوى المزيد من التراجع والانكفاء في هذا النفوذ. هذا التقدير غير المعلن، هو الذي يفسر الاستحضار المتكرر لقوة إسرائيل وتفوقها على المستوى العسكري، وذلك في إطار محاولة لنقل نقاط الارتكاز في ممارسة الحضور السياسي الإقليمي من العناصر الثلاثة المذكورة إلى عنصر السطوة العسكرية، من خلال التذكير والتلويح بها. وبوجه من الأوجه، يمكن القول، إن الأمر يبدو أشبه بسعي واعٍ لتثبيت رادعية إسرائيل في ظل المتغيرات الجذرية التي تشهدها المنطقة، والتي يُكثر ساسة تل أبيب من وصفها بالزلزال، معترفين بحجم التحديات التي يفرضها على الصعيد الاستراتيجي.
ما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أن إسرائيل ترى أنها تتحرك سريعاً في اتجاه الماضي البعيد، أي في اتجاه العقدين الأوّلَين من نشأتها، عندما كانت تعيش قلقاً وجودياً، وترى أن السبيل الوحيد لحماية هذا الوجود وتحصينه وتنميته هو ـــــ بالدرجة الأولى ـــــ الاقتدار العسكري، كما يعني أن جهود نحو أربعين عاماً، من بناء التحالفات وتوقيع الاتفاقات وتهيئة الظروف الرامية إلى إرساء الوجود الإسرائيلي على ركائز وضمانات سياسية، تشرف على الذهاب أدراج الرياح، في ضوء انكفاء السند الدولي (الولايات المتحدة) وفقدان الظهير الإقليمي (نظام حسني مبارك)، وانحلال المستسمك الذي استند إليه القَبول السياسي لإسرائيل عموماً، وتستّرت به مشاريع امتدادها وهيمنتها (عملية السلام).
وبما أن التاريخ ـــــ على ما يُقال ـــــ لا يعيد نفسه إلا على شكل مأساة أو ملهاة، فإن للعودة الإسرائيلية إلى عصر الاعتماد على السطوة العسكرية مفارقتها الخاصة. ففي خمسينات وستينات القرن الماضي، كان الخط البياني للعنفوان العسكري الإسرائيلي يتجه صعوداً ليصل إلى ذروته عام 1967، حين سجل الجيش الإسرائيلي انتصاراً ساحقاً على جيوش عربية مجتمعة. أما اليوم، بعد انسحابين غير مشروطين تحت وطأة الفعل المقاوم من أراض عربية محتلة (لبنان وغزة)، وفي أعقاب حربين عنيفتين تُجمع القراءات الإسرائيلية على عدم الانتصار فيهما، فإن التقويم الموضوعي لمسار هذا الخط في العقد الأخير يميل به نحو الانحدار. يحصل ذلك في ظل التنامي المطّرد لقوى المحور المقابل، وتعاظم قدراته العسكرية، بدءاً بإيران مروراً بكل من سوريا وحزب الله، وانتهاءً بالمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة. هذا المشهد يقود نحو مزيد من الوضوح في فهم المأزق الاستراتيجي الذي تمر به إسرائيل، وتالياً في فهم دوافعها لإعادة إنتاج صورتها الردعية بأعلى درجة ممكنة. مشكلة تل أبيب على هذا الصعيد هي رفضها الإقرار بأن ما بات يحكم علاقتها الردعية بأعدائها هو التوازن لا التفوق، وتالياً فإن إكثارها من التلويح بتفوقها أمام أعدائها لا يعكس سوى قلق دفين من النظر إليها بعين الضعف من جانب هؤلاء.



إحباط من الولايات المتحدة


كشفت مصادر سياسية إسرائيلية، لموقع يديعوت أحرونوت الإلكتروني، عن شعور بالإحباط وعدم الرضى، يسود في إسرائيل، جراء أداء البيت الأبيض غير الحازم في فرض عقوبات شديدة على طهران. وأعربت المصادر، المشاركة في النقاشات التي تجري في المنتديات السياسية والأمنية المقلصة، عن استيائها من السياسة الأميركية الحالية تجاه إيران، وخاصةً أن «فرنسا وبريطانيا بدأتا العمل، فيما إدارة اوباما ما زالت لا تعمل بكامل قوتها من أجل فرض عقوبات اقتصادية نوعية على طهران».
هذا ولفت الموقع الى أنهم في القدس يثنون على الخط الذي ينتهجه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، ورئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، في الوقت الذي لم تبلور فيه إدارة أوباما سياسة حازمة بما يكفي. واتهمت المصادر نفسها إدارة أوباما بأنها تعمل وفق ايديولوجية «التردد».