سوريا | إنّ اعتماد السوريّين في فصل الشتاء بنحو رئيسي على مادة المازوت للتدفئة، وعدم وجود بدائل حقيقية متاحة أمامهم، جعلا من ندرة المازوت في هذه الظروف الحرجة التي تمر فيها سوريا أزمة حقيقية يعيشها الشعب السوري ولا تجدي معها الخطابات ولا وعود الحكومة. بدأت الأزمة بالتبلور قبل دخول الشتاء فعلياً وزيادة الطلب على المازوت بغرض التدفئة؛ إذ لوحظ قبل ذلك بوقت ليس بقصير وجود أزمة مازوت خانقة بالنسبة إلى الآليات العاملة على هذه المادة، بحيث كانت تُشاهد أرتال الشاحنات والباصات لعدة كيلومترات تنتظر خارج بعض محطات الوقود. مشهد غطّى الساحة السورية حيث كانت ولا تزال الأرتال تطول يومياً أمام محطة ما، يُعرَف أن المازوت سيتوافر فيها، ما يضطر السيارات إلى المبيت أمامها أحياناً.
وقد ترافق ذلك مع شائعات عن قيام مسلّحين مجهولين بسرقة المازوت وتخزينه أو حتى إتلافه على الأرض، أو قيامهم باختطاف الصهاريج، كما يقول الموالون، فيما يغمز المعارضون من قناة الجيش ومركبات الدولة العاملة على الديزل التي تتحرك على مدى الساعات الـ 24 لإخماد حركة الاحتجاجات الشعبية، بما يتضمّن ذلك من تحريك لقوافل الدبابات والآليات الثقيلة وناقلات الجند وباصات «الشبيحة». إلا أنّ العقوبات الاقتصادية الأوروبية والأميركية التي طاولت قطاعات وشركات التنقيب عن النفط واستكشافه، والحظر المفروض على بيع المشتقّات النفطية السورية بما فيه النفط الخام، تقتضي وجود وفرة في سوق الاحتياجات الداخلية، غير أنّ الواقع مختلف تماماً.
لقد دخلت أزمة المازوت طورها الشعبي مع دخول الشتاء، وبدأ الناس بتعبئته وادّخاره مثلما يفعلون في كل عام؛ إذ إنهم يخزّنون هذه المادة بخزانات تراوح حجماً بين البرميل الواحد والخمسة براميل (البرميل يتّسع لـ 200 ليتر)، علماً بأن البرميل الواحد يكفي لإشعال صوبيا واحدة بمعدل 12 ساعة يومياً لمدة شهر واحد، أي إن العائلة السورية التقليدية المكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى برميلين شهرياً في حدّ أدنى. ويكون التزود عادة من خلال موزعين مرتبطين بمحطات الوقود العاملة، إلا أنّ ندرة المازوت من جهة، ولأغراض أمنية من جهة أخرى، احتكرت الفرق الحزبية (حزب البعث العربي الاشتراكي) عملية التسجيل والتوزيع على المواطنين، أي إن على كل راغب في التزوُّد بالمازوت مراجعة الفرقة الحزبية والتسجيل فيها، بما يتضمّنه الدور الحزبي من قفزات ومحسوبيات ومنع بحجة نفاد الكميات إذا كان معروفاً عن شخص معيَّن أنه معارض مثلاً، وبما يتضمّنه الإجراء بحد ذاته من إعادة تفعيل بعد طول نسيان لوضع الحزب كقائد للدولة والمجتمع بعد كل محاولات ومؤتمرات الحوار الداخلية والضغط العربي والدولي بإجراء إصلاحات تبدأ بإلغاء المادة الثامنة المنصوص عنها في دستور عام 1971.
غير أنّ الأزمة تبدو أعمق من كل ذلك؛ إذ تُغطى معظم المحافظات السورية بالحد الأدنى الممكن من المازوت، من قبل الشركة السورية للنفط «سادكوب» مباشرة إلى محطات الوقود، بمقدار حمولة كاملة أو نصف حمولة، أي 10 آلاف أو 20 ألف ليتر. ويلاحَظ هنا كيف تغطى المحطات بالوقود يومياً في دمشق وحلب تحديداً، المحسوبتين على الموالين عموماً، وتستثنى المحافظات المحسوبة ضد النظام من ذلك، أو يطبَّق عليها نظام تقنين إضافي ونمط توزيع غير عادل «كإجراءات عقابية جماعية» بحسب ما يراه المعارضون للنظام. ثمّ تقوم محطات الوقود بدورها بالتوزيع وفق قوائم الحزب بسعر من 15 إلى 16 ليرة لليتر الواحد. إلا أن الفساد يقتضي إخفاء المازوت وبيعه في السوق السوداء بأسعار تصل إلى 20 ليرة لليتر الواحد، أي ما يقارب سعر المازوت الأخضر بحدود 22 ليرة لليتر. الفقراء وغير المدعومين عدلوا عن فكرة التعبئة بغرض التخزين، فالمطلوب الآن التدفئة من يوم إلى يوم، لذا أصبح دارجاً جداً مشاهدة أرتال طويلة وملتفة كالأفاعي لعبوات المازوت التي يصل عددها أحياناً إلى الآلاف أمام المحطات، وكثير من الأحيان تصدر «فرمانات» تفرض صرف 13 ليتراً فقط لكل مواطن، مع ما يرافق ذلك من انتظار طويل بدايةً لقدوم الصهريج، والذي غالباً ما «يخطئ» المحطة المحدَّدة إلى محطّة أخرى ليبدأ بعدها سباق العبوات والأخذ والردّ والشتائم والمهاترات، ولا تنتهي بتجمُّعات المنتظرين لساعات قد تطول كثيراً، وما يرافقها من أحاديث تستدعي مراقبة أمنية حاضرة دائماً، خوفاً من انقلاب هذه التجمعات إلى تظاهرات.
من جهة أخرى، برزت في الفترة الماضية، خلال أزمة الوقود، ظاهرة التحطيب الجائر للأحراج والأشجار، حتى المثمرة منها، في تعدّيات خطيرة على الثروة الحرجية والأملاك الخاصة والمملكة النباتية السورية؛ إذ ازدادت مبيعات المناشير العاملة على البنزين «لحسن الحظ لا تعمل على الديزل» والمناشير الكهربائية، وراجت كثيراً مدافئ الحطب. ويمكن يومياً رؤية العديد من الشاحنات المحمّلة أطناناً من الخشب الحرجي وخاصة السنديان، في ظروف من الفلتان الأمني وحصر الدولة ومؤسساتها بالهم الأمني وبملاحقة التظاهرات وتتبُّعها وغض النظر عن كل ما عدا ذلك من انتهاكات خطيرة، في خطوة عُدّت تشجيعاً على التحطيب، بما أنه رُفع سعر طن الحطب الذي تبيعه الدولة من 1300 ليرة إلى 1900 ليرة. خطوة رأى فيها البعض تشجيعاً للأفراد على عمليات قطع الغابات والأحراج الباقية، بما أنّه «لا أحد سيدفع مثل هذا السعر» كما يقول أحد الحطّابين.
وفي حين أنّ عقوبة من يُلقى القبض عليه متلبِّساً بجرم قطع أشجار حرجية، هي التحويل إلى المحكمة، أي إن القضية تؤجَّل «سنتين ثلاثة»، يبدو مستقبل الثروة الحرجية في سوريا بخطر شديد، شأنه شأن كل القطاعات في البلد.
السوريون اليوم، وهم في خضمّ إضراب عام وعصيان مدني، ليسوا في أفضل أحوالهم، بما أنّ الموت والخطف والقمع تحاصرهم من كل مكان، لذلك يصبح السؤال عن التدفئة رفاهية أمام البقاء على قيد الحياة. لكنّ البرد أيضاً يحاصرهم مثلما يقتلهم الشتاء وغلاء الأسعار وانخفاض القيمة الشرائية لليرة السورية وفقدان الكثير من المواد الأولية.